يُعد قياس الغائب على الشاهد أحد مكونات
العقل الاعتزالي ،كما أنه يُعدّ على رأس مناهج الاستدلال عند المعتزلة
،وليس من الغلو القول إنه أكثر المناهج استخداماً وأوسعها شهرة وانتشاراً
بين المتكلمين،ولاسيما المعتزلة،ومن المؤكد أن الوصول إلى حقيقة هذا القياس
والوقوف على أسسه سيتيح لنا الكشف عن جوانب من العقل الاعتزالي ،ذلك العقل
الذي كان القياس أحد دعائمه ؛وآلة من آلاته في الدفاع عن الأسس التي وضعها
المعتزلة ،أو في الرد على الخصوم.
كما
يُعدّ الفكر الاعتزالي في تصوري من أخصب المدارس الكلامية،وتتمثل هذه
الخصوبة في جانبين على الأقل :جانب خارجي وجانب داخلي ،فبالنسبة للجانب
الخارجي استطاعت المدرسة الاعتزالية التي نشأت على يد واصل بن عطاء
«ت:131ه» أن تقف في وجه التيارات الخارجية،ومن هذه التيارات: المجوس
واليهود والنصارى ؛حيث سعى المجوس إلى نشر الشك والإلحاد ظاهراً إن أمكن
،أو خفية إذا تعذّر عليهم.1
ولما شعر المعتزلة بخطورة النظرة الفارسية،قاموا بالرد عليهم،وبيان تهافت مذهبهم ،وممن رد على المجوس، واصل بن عطاء «ت:131»2 مؤسس المعتزلة ،وابراهيم النظام «ت:231» الذي رد عليهم رداً قوياً،وأبطل كثيراً من أفكارهم،3 والقاضي عبدالجبار«ت:415»4 وكذا رد المعتزلة على اليهود والنصارى ،لأن دورهم كان خطراً؛ فهم في رأي الجاحظ نقلوا كتب المجوس،كما أنهم تتبعوا الأحاديث الضعيفة والآيات المتشابهة وبثوها للعوام،يضاف إلى ذلك معرفتهم بأفكار الملحدين.5
أما فيما يتصل بالجانب الداخلي فقد كانت لهم مواقف معارضة للحنابلة والأشعرية ،وكم من يقرأ كتب القاضي عبدالجبار الموجودة بين أيدينا يدرك هذه الحقيقة،هذا العقل الذي عُرف به المعتزلة،استند على مكونات يقوم عليها،من هنا جاءت هذه الدراسة لتكشف عن هذه المكونات،وقد بان لي من خلال الفحص أن أهم المكونات التي ساهمت في تشكيل العقل الاعتزالي،هو قياس الغائب على الشاهد.
وهو ماجاءت هذه الدراسة لتكشف عنه وعن مدى قيمته العلمية.
وقد تناولت كثير من الدراسات هذا الجانب،ولكن بشكل عَرَضي 6،ولم أطلع على دراسة معمقة متخصصة حول قياس الغائب على الشاهد سوى دراسة قام بها عبدالعزيز عبداللطيف المرشدي،وقد نال بها درجة الدكتوراه في جامعة الأزهر،كلية أصول الدين ،قسم العقيدة والفلسفة،وكانت تحت عنوان "قياس الغائب على الشاهد في الفكر الإسلامي" ومما امتازت به هذه الدراسة القيمة،أنها أعطت فكرة شمولية عن قياس الغائب على الشاهد في الفكر الإسلامي.، ولكنها في تصوري خلت من أمرين أساسيين:
فهي:لم تبرز قياس الغائب الشاهد على أنه من أهم مكونات العقل عند المتكلمين،ولاسيما المعتزلة،وهذا ماقامت به هذه الدراسة.
كما أنها لم تظهر بيان مدى القيمة العلمية لهذا القياس،وهذا ما حاول هذا البحث إبرازه،بالإضافة إلى بيان أثر قياس الغائب على الشاهد في السنة النبوية رداً أو تأويلاً،وهذه من أهم الإضافات التي جاءت بها هذه الدراسة.
وقد استخدم الباحث في دراسته المنهج النقدي في معظم البحث خاصة عند الحديث عن مدى القيمة العلمية للقياس،والمنهج البنيوي الذي يقوم على اعتبار النص أو الفكرة، بنية قائمة بذاتها لها،بمعزل عن كل الظروف المحيطة بالنص،بما فيها تجاوز قائل النص؛أي اعتبار النص أو الفكرة حدثاً آنياً،وقد برز هذا المنهج في النصوص الاعتزالية التي يراد نقدها.7والمنهج المقارن الذي استخدم بقصد تجلية موقف المعتزلة ؛ إذ غالباً ما تبرز وجهة النظر وتتضح من خلال تبيان الموافق والمخالف،وهذا هو المقصد من مقارنة المعتزلة بغيرهم كالأشعرية مثلاً، غير أن هذه المقارنة لاتصل إلى حد ذكر الأدلة،والدخول في التفاصيل الجزئية.
أولاً: تعريف قياس الغائب على الشاهد وأركانه
عرَّف قياس الغائب على الشاهد بأنه: إذا وجب "الحكم والوصف للشيء في الشاهد ،لعلة ما ،فيجب القضاء على أن من وصف بتلك الصفة في الغائب،فحكمة في أنه مستحق لتلك العلة، حكم مستحقها في الشاهد."8
ويمكن أن نمثل لهذا القياس بإثبات صفة العلم لله عند المعتزلة من خلال الأفعال الإنسانية المحكمة/المتقنة؛فالأعمال المتقنة التي يقوم بها المرء،تدل على علمه،ومثل ذلك مخلوقات الله فإنها تدل على علمه،كما دلت أفعالنا على علمنا9،هذا هو تعريف قياس الغائب على الشاهد ،فهل هناك فرق بين هذا القياس والقياس الأصولي المسمى قياس التمثيل؟
عند النظر في الجزئيات الفقهية المستندة إلى القياس الأصولي والجزئيات الكلامية المستندة إلى قياس الغائب على الشاهد لانجد فرقاً بينهما،وفي هذا السياق يقول الغزالي:" التمثيل «أي قياس التمثيل» وهو الذي يسميه الفقهاء قياساً، ويسميه المتكلمون رد الغائب إلى الشاهد،ومعناه أن يوجد حكم في جزئي معين واحد فينقل حكمه إلى جزئي آخر يشابهه بوجه مّا"10 فمن الواضح أن الغزالي لم يفرق بينهما،فالتعريف الذي ذكره يصلح للقياس بالمعنى الفقهي والكلامي،وهذا المعنى نجده عند الشيرازي؛ حيث يعرف القياس بقوله:"اعلم أن القياس حملُ فرع على أصل في بعض أحكامه بمعنى يجمع بينهما"11وهذا التعريف يتفق مع تعريف الغزالي، مع ملاحظة أن الشيرازي وضع تحت هذا التعريف القياس الفقهي وقياس الغائب على الشاهد.
وسيتضح عدم الفرق بينهما من خلال البحث في أركان القياس الأربعة،وإذا كان ثمة من فرق فهو في مجال استخدام كل منهما.
إذاً ،ليس هناك فرق بين قياس الغائب على الشاهد وقياس التمثيل،ولكن هل هناك فرق بين قياس التمثيل الفقهي وقياس الشمول المنطقي؟التعريف السابق الذي ذكره الغزالي والشيرازي ينطبق على قياس التمثيل،أما قياس الشمول فهو قول "مؤلف من قضايا متى حصل التسليم بها لزم عنه لذاته قول آخر"12 ومثلا ذلك: كل الناس ميتون، وزيد إنسان ،فزيد ميت ،ويمكن القول أيضاً زيد إنسان وكل إنسان ميت فزيد ميت ،وتسمى القضية الأولى :المقدمة الكبرى،أو الحد الأكبر، والثانية: الصغرى أو الحد الأوسط باعتباره متكرراً بين الأوسط والأكبر،والثالثة: النتيجة .13
وقد ذكر ابن تيمية وجه العلاقة بين قياس الشمول وقياس التمثيل،وخرج بنتيجة مفادها أن لا فرق بينهما من حيث الحقيقة،يقول ابن تيمية:" والذي عليه جمهور الناس وهو الصواب أن كليهما قياس حقيقة..فإن قياس التمثيل مضمونه تعلق الحكم بالوصف المشترك ،الذي هو علة الحكم،أو دليل العلة أو هو ملزوم للحكم،وهذاالمشترك هو الحد الأوسط في قياس الشمول ،فإذا قال القايس نبيذ الحنطة المسكر حرامّ قياساً على نبيذ العنب،لأنه شرابٌ مُسكر ،فكان حراماً قياساً عليه، وبين أن السكر هو مناط التحريم فيجب تعلق التحريم بكل مُسكر كان هذا قياس تمثيل وهو بمنزلة أن يقول هذا شراب مسكر «مقدمة صغرى» وكل مسكر حرام «مقدمة كبرى» فالمسكر الذي جعله في هذا القياس حداً أوسط،هو الذي جعله في ذلك القياس الجامع المشترك الذي هو مناط الحكم «أي العلة» فلا فرق بينهما عند التحقيق في المعنى،بل هما متلازمان ،وإنما يتفاوتاون في ترتيب المعاني،والتعبير عنها."14
فمن الواضح أن لافرق بينهما من حيث المضمون،ويبقى الفرق من حيث التعبير وشكل كل منهما،وأهم فرق بينهما من هذه الجهة أن قياس الشمول أكثر اعتماداً على الشكل من قياس التمثيل.15.
والناظر إلى التعريف السابق والمثال الذي ذكرناه لقياس الغائب على الشاهد يجد أنه عملية ذهنية،يقوم على أركان أربعة،وأي نقص في ركن أو خلل فيه يؤدي إلى سقوط هذا القياس،وهذه الأركان هي :الغائب/المقيس ،الشاهد/المقيس عليه،والعلة الجامعة بين المقيس والمقيس عليه،والحكم.
ويكمن أن نطبق المثال السابق على الأركان الأربعة:
فالشاهد: هو المقيس عليه،وهو الأصل الذي يُنقل الحكم منه إلى الغائب/المقيس،وذلك بعد معرفة الخصائص المشتركة بينهما من قبل القائس،والشاهد في المثال السابق هو الإنسان،واعتبر الإنسان أصلاً في هذا القياس ،لأنه حامل للحكم،بينما الغائب مفتقر إلى الحكم ولابد من البيان أن الشاهد ليس هو الإنسان دائماً،كما أن الشاهد ليس مقصوراً على مانشاهده،فهو أعلم مما يقع تحت المشاهدة/الرؤية،فكل ماهو معلوم لن يمكن أن نسميه شاهداً16 سواء أكان خاضعاً لحاسة من حواسّنا الخمس،أم كان معلوماً لنا عن طريق الاكتساب كالعلم المستفاد من التجربة،أو عن طريق الاضطرار؛ كعلم الإنسان بما في نفسه.
والغائب:هو المقيس الذي يُحمل على المقيس عليه/الأصل ،ومن ثم يأخذ حكمه،فهو بمثابة الفرع،وكونه فرعاً ليس تقليلاً من شأنه،كما أن الشاهد كونه أصلاً ليس رفعة من مكانته،وإنما اعتبر فرعاً باعتبار خلوه من الحكم ،"وليس المراد بالغيبة هاهنا البعد والحجاب،وإنما المراد غيبة العلم"17 ومؤدى هذا أن الغائب ليس هو الغائب عن حواسنا،فهو أعلم من ذلك،فهو كل ماغاب عنا معرفته،فقد يكون أمام أبصارنا ولكن نجهل علله والقوانين المتحكمة فيه،فهو غائب بهذا المعنى،وبذلك يكون هناك تقابل بين الشاهد والغائب،فما كان منضوياً تحت أحدهما كان خارجاً عن الآخر.
ولكن لابد من البيان أن الشاهد وإن كان هو أعم من الإنسان،فقد احتل الإنسان الصدارة في استدلالات المتكلمين؛ حيث كانوا ينطلقون منه باعتباره حاملاً للوصف،.كما أن الغائب وإن كان عاماً في كل ماغاب عنا إلا أن المقصود به في أغلب استدلالات المتكلمين هو الله.
غير أن السؤال الذي يرد هنا،هل اختيار كلمة الشاهد كأصل والغائب كفرع جاء بشكل عشوائي أم أنه جاء بشكل مدروس ومخطط له؟ يجيب أبوهاشم الجبائي «ت:323» عن ذلك""أنا نسمي المعلوم شاهداً، وماليس بمعلوم غائباً اصطلاحاً مِنّا".18 وليس ببعيد أن يكون هذا الاصطلاح مستعاراً من القرآن الكريم،حيث نجد التساوق بين الغيب والشهادة في آيات كثيرة كقوله تعالي:«وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون» «التوبة :105» مع ملاحظة بعض الفروق بين الاستخدامين،حيث نجد الوجود كله بمافي ذلك الله في ثنائية الغائب والشاهد عند المتكلمين،،هذا على خلاف الاستخدام القرآني ،حيث يتعالى الله عن هذه الثنائية التي ينضوي تحتها المخلوق فقط، وهذه الفروق لاتُعد مانعاً من استعارة هذه التسمية من القرآن؛لأن الاستعارة وقعت على التسمية دون المحتوى؛ وإلا لماذا وقع الاختيار على تسمية المعلوم عند المعتزلة بالشاهد،ولم يقع الاختيار على تسميته بالمعلوم أو بالحاضر أو بالمدرك،ولماذا وقع تسمية غير المعلوم
بالغائب ولم تقع التسمية بغير المعلوم أو بما ليس بمعلوم أو بما ليس بحاضر،أو بما ليس بمدرك،مع العلم أن التسمية بالمعلوم وبما ليس بمعلوم هي الأقرب للصواب؛من حيث أن التسمية بالمعلوم أشمل من التسمية بالشاهد ،والتسمية بما ليس بمعلوم أشمل من التسمية بالغائب.19
والعلة الجامعة:هي الرابطة بين الشاهد «المقيس» عليه والغائب «المقيس» ،وهذه العلة:"هي المعنى الذي يقتضي الحكم"20 وهي في المثال الذي ذكرناه عند تعريفنا للقياس الإتقان والإحكام الموجود في صنعة العالم الذي هو شاهد ،وهذا الإتقان والإحكام هو الذي جلب الوصف «الحكم» للإنسان بأنه عالم ،فالعالم هو الوصف والحكم الذي لحق بالإنسان استناداً إلى العلة، فوجودها وجود
لهذا الوصف، وفقدها فقد له،ومن ثم يتعدى هذا الحكم الوصف بالعالم من الشاهد «المقيس» عليه إلى الغائب «المقيس» والغائب هنا هو الله،فيوصف الله عندها بأنه عالم.
وإلحاق الحكم بالغائب من خلال الشاهد ليس مقصوراً على العلة ،بل هناك أربعة جوامع تجمع بين الغائب والشاهد عند المتكلمين،يقول الغزالي «ت :505» :"وجه الجمع الصحيح بين الغائب والشاهد أربع:جمع لعلة،كقولهم: العلم علة كون الذات عالمة ،فليكن كذلك في الغائب،وجمع بالحقيقة ،كقولهم : حقيقة كونه عالماً قيام العلم به ،والجمع بالشرط،كقولهم:الحياة شرط العلم شاهداً فكذا غائباً،والجمع بالدليل العقلي، كقولهم:رسم الخط المنظوم وإتقانه دليل على علم المتقن شاهداً فكذا غائباً .21إذاً ،هناك أربعة جوامع،وقد استخدمت المعتزلة هذه الجوامع،ولكن احتل الجامع بالدليل الصدارة عند المعتزلة فيما يتصل بمسائل التوحيد،واحتل الجامع بالعلة الصدارة فيما يتصل بمسائل العدل الإلهي،يقول القاضي عنهما:"فالأول «الجامع بالدليل» هو كالدلاة على صفاته جل وعز؛ لأنه إنم يجب كونه قادراً لثبوت الطريق فيه ،وهو صحة الفعل،وهذه حال كثير من صفاته تعالى،وأكثر مسائل التوحيد تجري على هذا الحد،والثاني هو الاشتراك في العلة،كنحو ما نقوله في حاجة المحدث منا إلينا لحدوثه،22 ثم يقاس الغائب عليه فيجعل أفعاله محتاجة إليه لحدوثها،وكثير من مسائل العدل يبنى على ذلك"23
وقد أثبت المعتزلة كل الصفات الإلهية للّه:أي كونه قادراً عالماً مريداً سميعاً بصيراً استناداً إلى الجمع بالدليل وذلك من خلال قياس الغائب على الشاهد،24 واستناداً إلى الجمع بالعلة أثبت المعتزلة العدل الإلهي ،ونكتفي للتدليل على ذلك بمسألة التحسين والتقبيح العقليين عند المعتزلة،وقد جاءا انطلاقاً من الشاهد وألحق المعتزلة به الغائب، فعندهم أن الله لايفعل القبيح 25لأنه " عالم بقبح القبيح ومستغن عنه... ومن كان هذه حاله لايختار القبيح بوجه من الوجوه...«لأنّا» نعلم ضرورة في الشاهد أن أحدنا إذا كان عالماً بقبح القبيح...فإنه لايختار القبيح البتة"26
وتفرع عن مسألة التحسين والتقبيح فروع كثيرة،كلها مبنية على قياس الغائب على الشاهد،من ذلك وجوب الثواب والعقاب؛ وترتب على هذا نفي خروج العصاة من النار بشفاعة أو بغيرها ،ومما تفرع عن التحسين والتقبيح القول بوجوب مراعاة الله للصلاح والأصلح فيما يخص عباده ،يقول الغزالي «ت:505» عن دليل المعتزلة في هذه المسألة:" وإذا طولبوا بتحقيقه «بتحقيق الدليل» لم يرجعوا إلى شيء،إلا أنه رأيٌ استحسنوه بعقولهم من مقايسة الخالق على الخلق ،وتشبيه حكمته بحكمتهم "27 وكما تجد الجمع بالعلة دليلا على عدم فعل الله للقبيح، فكذلك تجد هذا الجمع دليلاً على عدم إرادة الله للمعاصي،وعلى عدم خلق الله لأفعال العباد،وعلى أن الله لايليق به أن يوقعنا في الآلام من غير تعويض عنها.28وبذلك يجتمع كما قلنا التأسيس النظري والتطبيق العملي في مدى أهمية قياس الغائب على الشاهد في مسائل العدل الإلهي عند المعتزلة اعتماداً على الجمع بالعلة.
مع ملاحظة أن الفرق بين الجمع بالدليل والجمع بالعلة هو أن الحكم على الشاهد والغائب،بأنه قادر جاء انطلاقاً من الدليل في كل منهما؛فكما أن صحة الفعل دليل في الشاهد على أنه قادر،فكذلك صحة الفعل نفسها دليل على أن الغائب قادر،ولا يوجد دليل في الشاهد والغائب غير هذا الدليل،بينما الحكم على الشاهد والغائب بأنه لايفعل القبيح،لم يمكن انطلاقاً من العلة في كل منهما،وإنما جاء انطلاقاً من العلة في الشاهد ثم ألحقنا بها الغائب ؛وهذا يعني أن عدم اختيار الشاهد للقبيح معلل بعلمه وغناه دون علة أخرى،ولابد من التدليل على أن هذه هي العلة دون سواها،ثم لابد أن نلحق الغائب بالشاهد استناداً إلى هذه العلة دون سواها، أي أن العلة الموجودة في الشاهد هي التي سمحت لنا بإطلاق الحكم على الغائب،وهذا بخلاف الجمع بالدليل ؛ إذ الدليل موجود في كليهما29.
ثانياً : مصدر القياس
أما عن مصدر هذا القياس فهناك من يرى أن أصله يوناني،ومن هؤلاء من يبالغ إلى حد أنه يجعل من العقل الإسلامي عقلاً غير قادر على الإنتاج والخلق والإبداع،وإنما ديدنه الاتباع،وأغلب هؤلاء في تصوري تنقصهم المعرفة بالعقل الإسلامي وإبداعاته وردوده على الفكر اليوناني،والعقائد المخالفة 30،وهذا التوجه يتفق مع نظرة بعض المستشرقين الذين يحاولون تقويم الفكر الإسلامي ،واستبعاد مقدرته على الإبداع،وبالتالي فالفكر الفلسفي الإسلامي ليس إلا وليد الفكر اليوناني.31
والذي أراه أن هذا القياس انتقل من أصول الفقه الذي جاء به الشافعي «ت:204»إلى علم الكلام،وقد صرح "المتكلمون أنفسهم بأنهم قد استعاروا هذه الصيغة «قياس الغائب على الشاهد» من صيغ الاستدلال من إخوانهم الفقهاء ،ولكنهم أدخلوا عليها تحويراً بدا لهم أن يقربها إلى طبيعة البحوث الكلامية"32 والذي يدل على أن هذا المنهج مستعار من قبل الأصوليين هو وحدة الأركان بين القياس الأصولي والقياس الكلامي، وإن ظهر خلاف فهو ناتج عن الموضوع الذي يبحث فيه العلمان:علم الكلام وعلم الأصول «33» ولكن إذا كان هذا المنهج يرجع في أصله إلى الأصوليين، وكان الشافعي المؤسس الرسمي للأصول في كتابه «الرسالة» لكن الا يمكن أن يكون الشافعي قد استعار هذا المنهج من الفكر اليوناني الأرسطي؟ يجاب عن هذا السؤال بأن الناظر في «أسلوب الرسالة وطريقة البحث فيها لايشعر بوجود أية علاقة بينها وبين أي دراسة أجنبية عن التفكير العربي واللغة العربية» «34».
هذا من حيث نفي تأثر الشافعي بالمنطق الأرسطي بشكل عام، أما عن العلاقة بين قياس الغائب على الشاهد في الفكر الإسلامي، والتمثيل الأرسطي، فإن هذا الأخير لم يعرف عند المسلمين قبل بشر بن يونس بن حتى «ت: 328» الذي ترجم كتاب البرهان لأرسطو ، وهذا الكتاب هو الذي يحتوي على التمثيل الأرسطي، في حين استخدم المسلمون هذا القياس قبل ذلك، هذا من الجانب التاريخي، أما من الجانب المضموني فهناك فرق كبير بين التمثيل الأرسطي وقياس الغائب على الشاهد، ولعل أبرز نقاط الخلاف أن التمثيل الأرسطي لايولي اهتماماً بالعلة الجامعة بين المقيس والمقيس عليه، بل يكتفي بمطلق التمثيل «التشبيه»، في حين لاغنى عن العلة في قياس الغائب على الشاهد عند علماء المسلمين باعتبارها الحجر الأساس في عملية القياس، ولهذا بينوا أن عدم الاشتراك في العلة الجامعة ينسف هذا القياس ويلزم عنه نتائج باطلة «35» إذاً، قياس الغائب على الشاهد ذو نشأة إسلامية، وليس في ذلك انتقاص للفكر اليوناني، حتى لو كان هناك تأثير فهو لايتجاوز الاشتراك في الألفاظ، أما من حيث المضامين والأركان فلا «36».
ثالثاً: إسهام القياس في إثبات الصفات الإلهية والعدل الإلهي عند المعتزلة
كوَّن هذا القياس جانباً هاماً من العقل الاعتزالي «37» وهذا يظهر من خلال عرض أدلتهم أو نقد أدلة خصومهم، فهم عندما يفعلون ذلك يقروّن أنهم ينطلقون من العقل، وهم في حقيقة الأمر ينطلقون من قياس الغائب على الشاهد، ونكتفي بذكر إسهام هذا القياس في إثبات الصفات الإلهية عند المعتزلة.
فالناظر في الصفات الإلهية التي أثبتها المعتزلة لله كصفة الوجود والقدرة والعلم والحياة، «38» يرى أن دليلها العقلي هو قياس الغائب على الشاهد، وذلك استناداً إلى العلة الجامعة بين الشاهد/المقيس عليه والغائب/المقيس، وهذه العلة «هي المعنى الذي يقتضي الحكم» «39».
فقد ذكرنا عند الحديث عن العلة أن هناك أربعة جوامع تجمع بين الغائب والشاهد، ومن هذه الجوامع الجمع بالدليل، وبناءً على هذا الجامع أثبت المعتزلة كل الصفات الإلهية لله أي كونه قادراً عالماً مريداً سميعاً بصيراً، وذلك من خلال قياس الغائب على الشاهد، ونكتفي بذكر إثبات كون الله قادراً عند المعتزلة استناداً إلى الجمع بالدليل.
فالله عندهم قادر بذاته، لأنه «قد صح منه الفعل، وصحة الفعل تدل على كونه قادراً..أما الذي يدل على أنه تعالى قد صح منه الفعل، فهو أنه قد وقع منه الفعل ، وهو أجسام العالم..ولو لم يصح لم يقع..وأما الذي يدل على أن صحة الفعل دلالة على كونه قادراً، فهو أنا نرى في الشاهد جملتين إحداهما صح منه الفعل، كالواحد منا، والآخر تعذر عليه الفعل كالمريض، فمن صح منه الفعل فارق من تعذر عليه بأمر من الأمور، وليس ذلك إلا صفة ترجع إلى الجملة، وهي كونه قادراً، وهذا الحكم ثابت في الحكيم تعالى، فيجب أن يكون قادراً، لأن طرق الأدلة لاتختلف شاهداً وغائباً «40» وكما تجد الجمع بالدليل دليلاً على إثبات كون الله قادراً انطلاقاً من الشاهد، فكذلك تجد الجمع بالدليل دليلاً على إثبات كون الله عالماً وسميعاً وبصيراً ومريداً انطلاقاً من الشاهد «41» وبذلك يجتمع التأسيس النظري والتطبيق العملي في مدى أهمية قياس الغائب على الشاهد في مسائل التوحيد عند المعتزلة اعتماداً على الجمع بالدليل.
وهنا يجدر التنبيه إلى أمر، وهو أن العمل بقياس الغائب على الشاهد، ليس موطن اتفاق من قبل العلماء، فكثير منهم قد عارض هذا القياس لأنه وراء نفي وتأويل بعض الصفات الإلهية، والذين عارضوا هذا القياس استبدلوا عوضاً عنه قياس الأولى، وخير من وضح هذا الأمر ابن تيمية رحمه الله، حيث يقول:« وهو «أي قياس الأولى» أن يكون الحكم المطلوب، أولى بالثبوت من الصورة المذكورة في الدليل الدال عليه، وهذا النمط هو الذي كان السلف والأئمة كالإمام أحمد وغيره من السلف يسلكونه من القياس العقلي في أمر الربوبية، وهو الذي جاء به القرآن، وذلك أن الله سبحانه لايجوز أن يدخل هو وغيره تحت قياس الشمول، الذي تستوي أفراده ولاتحت قياس التمثيل الذي يستوي فيه حكم الأصل والفرع، فإن الله تعالى ليس كمثله شيء، لا في نفسه المذكورة بأسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله ، ولكن يسلك في شأنه قياس الأولى كما قال «ولله المثل الأعلى» ، فإنه من المعلوم أن كل كمال ونعت ممدوح لنفسه، لانقص فيه، يكون لبعض الموجودات المخلوقة المحدثة، فالرب الخالق الصمد القيوم القديم الواجب الوجود بنفسه هو أولى به ، وكل نقص وعيب يجب أن ينزه عنه، بعض المخلوقات المحدثة الممكنة، فالرب الخالق.. أولى بأن ينزه عنه» «42».
يتصح مماسبق أن عدم الأخذ بهذا القياس من قبل الإمام أحمد وغيره أنه يقود إلى تشبيه الله بمخلوقاته، حيث يؤدي إلى إثبات الصفات لله كصفة العلم وغيرها انطلاقاً من المخلوق، وكذا نفي بعض الأشياء عن الله انطلاقاً من المخلوق، وهذا ماسيتضح معنا في نفي المعتزلة لرؤية الله يوم القيامة، والسبب الرئيس وراء المعارضة أنه يقود إلى نفي الصفات الخبرية أو تأويلها، فالقاضي عبدالجبار المعتزلي حمل اليد في قوله تعالى:« بل يداه مبسوطتان» المائدة:64» على معنى النعمة، وحمل «اليمين» في قوله تعالى:« والسموات مطويات بيمينه» على معنى القوة «43» وقد وضع ذلك تحت مبحث نفي الجسم عن الله، وتصور الجسم لايكون إلا من خلال قياس الغائب على الشاهد، وفي هذا السياق يقول ابن تيمية: «وهم إنما ينفون ماينفونه من الصفات لظنهم أنها تستلزم التجسيم» «44».
ونفي هذه الصفات عند المعترضين على هذا القياس هو تعطيل لصفات الله، وخير من تبنى هذا الاتجاه ودافع عنه ابن تيمية، فقد ناقش من نفى الصفات أو أوّلها في أكثر من موضع في كتبه، مبيناً أن من استخدم هذا المنهج، يستخدمه في مواطن ويتركه في مواطن أخرى، وهذا خلل في المنهج، فإذا كان نفي الصفات الخبرية جاء خوفاً من الوقوع في التجسيم، فإن الصفات الذاتية من السمع والبصر والعلم تقود إلى التجسيم، يقول ابن تيمية:« وقال المثبتون للصفات الشرعية لنفاتها لماذا نفيتم أن الله يرضى ويغضب ويحب ويفرح ونحو ذلك ممانطق به الكتاب والسنة، قالوا لإن هذه الصفات تستلزم التجسيم والتشبيه، فإنا لانعقل الغضب إلا غليان دم القلب لطلب الانتقام أو مايحصل عنه الغليان، وكذلك سائرها، قالوا وكذلك إثبات السمع والبصر والكلام والإرادة ونحو ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم، فإنا لانعقل الإرادة إلا ميل المريد إلى جلب ماينفعه ودفع مايضره أو مايلازم هذا المعنى وإلا فإرادة المراد الذي لاينفع صاحبه ولايضره لايعقل في الشاهد» «45».
إذاً اعتمد المعتزلة على قياس الغائب على الشاهد في إثبات الصفات الإلهية من القدرة والعلم.. وكان هذا القياس وراء تعطيل الصفات بنظر ابن تيمية، وسيتضح أثر هذا القياس أكثر في المبحث الثاني.
رابعاً: أثر القياس في العدول عن السنة النبوية
سنذكر هنا بعض النماذج المتصلة بالسنة النبوية التي تدل على أثر على هذا القياس في عملية العدول عن السنة، سواءً أكان هذا العدول كلياً، ويتمثل ذلك برد الحديث جملة وتفصيلاً، أم جزئياً، ويتجسم ذلك في عملية التأويل، أي إبعاد الدلالة الأصلية وتعويضها بدلالة أخرى، مع ملاحظة أن هذا العدول يرد باسم العقل، وعند التمعن فيه نجده قياس الغائب على الشاهد، وهذه النماذج هي: الرؤية، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المعاصي، والصراط، والميزان، وذبح الموت.
1 قياس الغائب على الشاهد وصلته بالعقل والرؤية: ففيما يتصل بعلاقة هذا القياس بالرؤية، وإطلاق كلمة العقل عليه، يقول القاضي عبدالجبار:« قد دل العقل والسمع على ماقلناه في نفي الرؤية»، ثم شرع بتفصيل الدليل الذي جاء: «من جهة العقل..«وهو» أن من شأن أحدنا أن لايرى إلا إذا كانت له حاسة صحيحة، ولايكفي ذلك دون أن يكون المرئي مقابلاً لحاسته، إن كان إنما يراه بلا واسطة، أو يقابل ماقابل حاسته إن كان يرى بواسطة هي المرآة.. فإذا ثبتت هذه الجملة، وكان من حق الرائي منا ألا يرى إلا ماهو مقابل لنا، وكانت هذه القضية «قضية المقابلة» فيه تعالى ممتنعة، فيجب أن تمتنع رؤيته» «46».
ماقاله القاضي هنا يكشف عن عملية القياس بتفاصيلها، كما لابد من ملاحظة أن هذا القياس جزء من مكونات العقل الاعتزالي، وجزئيات هذا القياس الذي نلمحه في نص القاضي واضحة، ويمكن إبراز هذا القياس وتوضيحه من خلال تطبيقه على دليل منع الرؤية الذي ذكره القاضي، فالمقيس عليه هو المرئيات الموجودة التي يراها الإنسان، والمقيس هو رؤيتنا لله، والعلة الجامعة هي أن مانراه ينبغي أن يخضع لشروط معينة هي: كون حاسة البصر صحيحة، وكون المرئي في مقابل الرائي أو في حكم المقابل، وهذه الشروط لصحة الرؤية ينبغي في نظر القاضي أن تطبق على الله، وبناءً على ذلك ينبغي أن نراه إذا وجدت هذه الشروط، وهذا هو الحكم ورؤيتنا له تعالى تجعل منه جسماً، والجسمية ممتنعة في حقه، وهذا معنى قوله السابق:« وكانت هذه القضية فيه تعالى ممتنعة» وإذا كانت الجسمية في حقه ممتنعة فيجب أن تمتنع رؤيته، ولا ننسى أن القائس هنا هو القاضي عبدالجبار، وبذلك تكتمل هذه الأركان.
إذاً، القول برؤية الله في نظر المعتزلة يؤدي لا محالة إلى أن يكون الله جسماً على غرار المرئيات، وهذه الخشية الرؤية تسوق إلى التجسيم جاءت صريحة في قول القاضي: «إن الكلام في الرؤية فرع على الكلام في نفي التجسيم» «47» وفي قول الزمخشري «ت: 538» في تعليله لنفي الرؤية بالأبصار:« لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة..كالأجسام «48» إذاً أنكرت المعتزلة الرؤية تنزيهاً لله تعالى حتى لايؤدي ذلك إلى الجسمية، وذلك لأن مانراه لايكون إلا جسماً، فالقول برؤيته تعالى يجعله مماثلاً للمرئيات، وهذا هو عين قياس الغائب على الشاهد وقد ذكر الغزالي «ت:505» دليل المعتزلة السابق ثم قال:« وحاصله يرجع إلى الحكم بأن ماشوهد وعلم ينبغي أن لايعلم غيره إلا على وفقه «49» وهذا هو قياس الغائب على الشاهد «50» هذه الخشية من المعتزلة هي الأساس النظري وراء العدل عن أحاديث الرؤية، فهي في نظرهم لاتتفق مع العقل، ويقصد بالعقل في هذه القضية قياس الغائب على الشاهد، وهذا بين من قول القاضي السابق :« وقد دل العقل والسمع على ماقلناه في نفي الرؤية».
ثم استدل بالعقل على هذا النفي، وكان دليله القياس، مع ملاحظة أن العقل في النقل السابق مقدم في الاستدلال على النقل، ومفاد هذا أن العقل، أي قياس الغائب على الشاهد في المرتبة الأولى وأهمية هذا الترتيب تظهر من خلال العدول عن السمع ليتفق مع العقل، أي قياس الغائب على الشاهد والعدول عن السمع في هذه القضية واضح، يقول القاضي عن حديث من أحاديث الرؤية:« إن هذا الخبر يتضمن..التشبيه لأنا لانرى القمر إلا مدوراً عالياً منوراً ومعلوم أنه لايجوز أن يرى القديم تعالى على هذا الحد، فيجب أن نقطع على أنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم «51» ويقول عن أحاديث الرؤية كلها: إن مارووه من الأخبار كلها يوجب التشبيه «52» فيظهر هنا أن عملية العدول، عن الروايات جاءت خشية أن تسوق الرؤية إلى التشبيه والتجسيم، وليس ذلك إلا قياساً للغائب على الشاهد، أي أن هذا العدول الكلي عن أحاديث الرؤية جاء من تأثير هذا القياس على العقل المعتزلي، حتى أصبح جزءاً منه ولهذا فهم يرفضون الرؤية انطلاقاً من الأدلة العقلية التي في حقيقتها ترجع إلى هذا القياس.
والعدول هنا جاء عن الحديث، وهو أحد شقَّي السمع، ويكتمل هذا العدول بشقيه، عندما نضيف إلى ذلك عدولهم عن دلالة القرآن، يقول القاضي في تفسيره لقوله تعالى:( وجوه يومئذ ناضره إلى ربها ناظرة) «القيامة: 23» إن «النظر إلى الله تعالى لايصح، لأن النظر هو تقليب العين الصحيحة نحو الشيء طلباً لرؤيته، وذلك لايصح إلا في الأجسام، فيجب أن يتأول على مايصح النظر إليه وهو الثواب كقوله تعالى: ( واسأل القرية التي كنا فيها) «يوسف: 82» فإنا تأولناه «أي تأول السؤال وذلك بحمله على أهل القرية» لصحة المسألة منهم «53».
إذاً حمل القاضي آية الرؤية على معنى سؤال القرية ، فلما كانت القرية بذاتها لاتسأل باعتبارها بناءً، كان المعنى أهل القرية، ولما كان الله لاينظر إليه بالأعين كان المعنى ناظرة إلى ثواب ربها، والذي يعنينا من هذا أن الذي دفع إلى التأويل هو الخشية من التجسيم، وفهم النظر على أنه يقود إلى التجسيم استناداً إلى قياس الغائب على الشاهد وهذا الأخير هو العقل، وعلى ضوء العقل أولت آية الرؤية فنخلص من ذلك إلى القول إن السمع/المنقول «القرآن والسنة» لابد أن يؤول ليتفق ودلالة العقل/قياس الغائب على الشاهد.
2 قياس الغائب على الشاهد وصلته بالعقل والشفاعة:
ساهم هذا القياس في العدول عن أحاديث الشفاعة للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين أدركهم الموت قبل أن يتوبوا، وكذا الأحاديث التي فيها خروج العصاة من النار، التي جاءت غير مقترنة بالشفاعة، لأن أحاديث الشفاعة والخروج من النار يفيدان عدم استمرارية العقاب في حق العصاة، حيث ينقلون من التعذيب إلى التنعيم، وهذا يتعارض مع ماتراه المعتزلة من أن العاصي إذا مات وكانت معصيته من الكبائر ولم يتب قبل موته، فإنه فاسق وهو يستحق العقاب المستمر الذي لاانقطاع فيه وهو «يخلد في النار ويعذب فيها أبداً» «54».
والأساس النظري لاستحقاق العاصي العقوبة، وبالتالي الخلود المستمر في النار، هو قياس الغائب على الشاهد وأقوال المعتزلة في هذا السياق كثيرة أقتصر منها على نموذجين: الأول متصل بعدم جواز الشفاعة والثاني: متصل باستمرارية العقوبة أما فيما يخص الأول فيرى المعتزلة أن الشفاعة للعاصي نوع من الإثابة، والعاصي لايستحق الإثابة «وإثابة من لايستحق الثواب قبيح، والله تعالى لايفعل القبيح» «55 لكن ماالدليل على أن إثابة من لايستحق الثواب قبيح؟ يجيب القاضي بالقول: إن الثواب» يستحق على طريقة التعظيم والإجلال، وماهذا سبيله لايحس دون الاستحقاق، ولهذا لايحسن من الواحد منا أن يعظم أجنبياً على الحد الذي يعظم والده» «56» أي أن الأجنبي لايستحق التعظيم كالوالد، فإذا عظم الولد والده والأجنبي على درجة واحدة كان الولد فاعلا للقبيح، لأنه ساوى بين من يستحق التعظيم وهو الوالد وبين من لايستحق التعظيم وهو الأجنبي وكذا الشفاعة للعاصي تجعله مساوياً للطائع، والمساواة بين ذلك قبح، لأن الطائع يستحق الثواب، والعاصي لايستحق الثواب بل يستحق العقاب، وقريب من هذا قوله أيضاًَ: إن الشفاعة للفساق الذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا تتنزل منزلة الشفاعة لمن قتل ولد الغير، وترصد للآخر حتى يقتله، فكما أن ذلك يقبح فكذا هاهنا «57» فيتضح بجلاء أن المعتزلة ينطلقون من الشاهد، ويلحقون به الغائب، ومايقبح في الشاهد يقبح في الغائب.
أما فيما يخص قول المعتزلة باستمرارية العقوبة، وبالتالي عدم الشفاعة والخروج من النار فهو:« أن العقاب كالذم يثبتان في الاستحقاق معاً ويزولان معاً.. حتى لايجوز أن يثبت أحدهما، ويسقط الآخر» «58» ولكن ماالدليل على أن الذم يستحق دائماً، حتى نحكم بالترافق بينه وبين العقاب؟
يرى القاضي أن الجواب عن هذا السؤال «لايقع فيه إشكال فمعلوم أن من لطم والده، وكان مصراً عليه يحسن منه ومن غيره أن يذمه على ذلك الصنيع دائماً «59» فكما يحسن ذم اللاطم في هذا المثال بشكل دائم، فكذا يحسن ذم العاصي الذي ارتكب كبيرة ولم يتب على الدوام، وإذا حسن ذمه حسنت عقوبته، للتلازم بينهما، وإذا حسن هذان، فمن القبح ترك مايحسن، هذا ماأراد القاضي قوله، وأدلته السابقة واضحة،
فيما أحسب في استنادها على القياس، أي ماغاب ينبغي أن يكون على وفق ماعلم وشوهد.
ولابد من التأكيد أنهم عندما يستدلون بهذا القياس على عدم الشفاعة، فهم يستدلون به على أنه دليل عقلي، وهذا مايجعل هذا القياس جزءاً من مكونات العقل الاعتزالي وقد لاحظنا فيما يتصل بالشفاعة أن إثباتها عند المعتزلة يحرم القول باستمراية العقاب، وإذا لم يستمر العقاب كان ذلك نوعاً من التفضل على العصاة، أو إثابتهم «والعقل قد دل على أن لا ثواب لهم» «60» وهذا العقل هو القياس.
3 قياس الغائب على الشاهد وصلته بالعقل والميزان:
ذهب جمهور أهل السنة إلى أن الأعمال التي يفعلها الإنسان توزن يوم القيامة بميزان مادي، واستدلوا على ذلك بظاهر القرآن وبصريح بعض الأحاديث «61» وإلى هذا ذهب جمهور المعتزلة، في حين ذهب بعض المعتزلة وبعض أهل السنة إلى أن الميزان حينما ذكر كان المقصود به إظهار العدل الإلهي، والدليل الذي اعتمد عليه هؤلاء قياس الغائب على الشاهد، وقد بين القاضي دليلهم بقوله: «إن أعمال العباد طاعاتهم ومعاصيهم «وهي» أعراض لايتصور فيها الوزن «62» فالحكم عليها بأنها أعراض وبالتالي لاتوزن، هو إلحاق للغائب بالشاهد، لأن المشاهد هو الوزن للمادة وليس للعرض، فالعرض لايقوم بذاته، ولذا نعجز عن وزن أعمالنا التي هي طاعات أو معاصٍ فلا ميزان للشجاعة والصدق والكذب والقتل..لأنها أعراض قائمة بنا، ومثل ذلك في الآخرة، لاتوزن هذه التصرفات، هذا ماأراد قوله من أنكر وزن الأعمال، وماهو إلا إلحاق للغائب بالشاهد أي مالم يعلم بما علم، وإنما يُثاب أو يعاقب فاعل هذه التصرفات بالنظر إلى آثارها لابوزن ذواتها.
4 قياس الغائب على الشاهد وصلته بالعقل وبتمثل الموت
على هيئة كبش وذبحه:
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الموت يتشكل بهيئة كبش وأن الله يذبحه، وفي ذبحه إشارة إلى خلود أهل الجنة وأهل النار من ذلك مارواه أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:« يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح زاد أبو كريب: فيوقف بين الجنة والنار، واتفقا في باقي الحديث فيقال: ياأهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: ويقال: ياأهل النار هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت قال: فيؤمر به فيذبح قال: ثم يقال: ياأهل الجنة خلود فلا موت، وياأهل النار خلود فلا موت» «63».
فقد رد القاضي عبدالجبار هذا الحديث وأمثاله، استناداً إلى قياس الغائب على الشاهد، ووجه الاعتراض أن الذبح في المشاهد يقع على الأجسام، وليس على الأعراض فالموت عرض لايقوم بذاته، بل بغيره كقيامه بالإنسان والحيوان ومثله مثل الصحة والحياة.. وماكان كذلك لايذبح فيقاس عليه الغائب، يقول القاضي في رده على من قال بذبح الموت:« وتعلقوا فيه «في ذبح الموت» بخبر يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يؤتى يوم القيامة بالموت على صورة كبش..ثم يذبح..ومن بلغ معه الكلام إلى هذا الحد فإن الواجب أن يُضرب عنه» «64».
والإضراب عنه، لأن القول بذبح الموت قول غير معقول في نظر القاضي، وفي هذا السياق يقول القاضي: «ثم العجب من ابن أبي بشر« يقصد الأشعري» أنه رام بصره ذلك «إشارة إلى ذبح الموت» بما يشبه قلة دينه، فقال: عن الموت يموت أيضاً، وأنه يؤتى به يوم القيامة في صورة كبش أملح، وإذا انتهى الكلام إلى هذا الحد، فالكف أولى «65» والكف أولى، لأن هذا الكلام في نظره خارج عن حد المعقول، وخروجه عن المعقول لأن الموت عرض، والعرض لا يذبح لا شاهداً ولاغائباً، يفهم من كلام القاضي أن فيه رداً للأحاديث الواردة في ذبح الموت، والأساس النظري الذي استند إليه في ذلك أن الموت عرض، والعرض لايذبح، ويبدو أن القاضي لم يسع إلى تأويل الذبح، لأن التأويل يجر إلى التعسف في هذا الموضع، والقاضي لايستسيغ ذلك.
وقد عبر الغزالي «ت: 505» عن رأي من أنكر ذبح الموت، وفي هذا يقول:« وإذا سمعت أن الموت، يؤتى به في صورة كبش أملح، علمت أنه مؤول، إذ الموت عرض، لايؤتى به، إذ الإتيان انتقال، ولايجوز على العرض، ولايكون له صورة كصورة كبش أملح، إذ الأعراض لاتنقلب أجساماً، ولايذبح الموت، إذ الذبح فصل الرقبة عن البدن، والموت ماله رقبة ولابدن، فإنه عرض أو عدم عند من يرى أنه عدم الحياة، فإذاً لابد من التأويل «66» ونحن نأخذ من هذا النص معطيين: فالأول: فيه دلالة على أن من اعترض على هذا الحديث ومنهم القاضي عبدالجبار اعترض عليه استناداً إلى قياس الغائب على الشاهد، ذلك لأن الموت أما أنه عرض وهذا هو الراجح من كلام الغزالي ولذا نراه يستند في ضرورة التأويل إليه والعرض لايقوم بغيره، وأما أنه عدم والعدم لا وجود له، وسواءً كان عرضاً أو عدماً فإنه لايذبح وهذا هو المعهود في الحياة الدنيا، وهذا بعينه قياس الغائب على الشاهد.. أما الثاني: فمن أوّل هذا الحديث ومنهم الغزالي استند على الدليل نفسه الذي استند عليه من رد الحديث، وهو القياس، فلما كان الموت عرضاً، والعرض لايقع عليه المجيء والذبح.. كان لابد من تأويله، والتأويل أولى عند الغزالي من رد الحديث، أما منهج المعتزلة فيقتضي رد هذا الحديث لأن المعتزلة « لايسوغون التعسف في تأويل أخبار الآحاد» 67 ولذا لم يقولوا بتأويله، والغزالي الذي ذهب إلى تأويل الحدث لم يستطع الخروج من التعسف، حيث رأى أن تمثل الموت بصورة كبش لايعد وجوده وجوداً ذاتياً حقيقياً، كوجود الشمس والقمر، وإنما وجوده وجود حسي «يختص به الحاس، ولايشاركه غيره، وذلك كما يشاهده النائم» «68».
فيفهم من هذا أن الموت لايتمثل بهيئة كبش، يدرك من قبل أهل الجنة والنار، وإنما هو موجود في أذهانهم لا في الخارج، ولكن كيف أوّل الغزالي الحديث؟ يرى الغزالي أن الموت بالصورة التي صورها الحديث يكون "موجوداً في حسهم لا في الخارج، ويكون سبباً لحصول اليقين باليأس عن الموت بعد ذلك؛ إذ المذبوح ميؤووس منه.«69» هذا التأويل فيه إيغال في التعسف، فلماذا يتصورونه في مخيلتهم على هيئة كبش، وليس على هيئة حيوان آخر؟ ولماذا كان لونه أملح، ولم يكن غير ذلك؟ ثم إن ألفاظ الحديث تأبى هذا التصور، فهناك مجيء وهناك ذبح، وهناك مخاطبة لأهل الجنة، ولأهل النار، وهناك ردود منهما، كل ذلك يبعد أن يكون الأمر مجرد إحساس، ويبدو أن المعتزلة شعرت أن هذا الحديث لايمكن تأويله، فقاموا برده انسجاماً مع منهجهم القائم على عدم التعسف في تأويل الحديث، لأن الحديث "إن لم يمكن تأويله إلا بتعسف لم يجز أن يكون النبي قاله على ذلك الوجه"70"، أي عدم صحة الحديث بالشكل الذي رواه الراوي، بينما ذهب جمهور أهل السنة إلى أن الموت، وإن كان عرضاً، فلا مانع أن يجعل الله منه جسماً، وأن يقع الذبح على هذا الجسم إعلاماً بالخلود«71».
إذاً كان القياس السبب وراء رد الحديث عند القاضي عبدالجبار«72»، وتأويله عند الغزالي، والذي أراه عدم استبعاد تشكل الموت بأي شكل، إذا نظرنا إلى الموت على أنه أمر وجودي مغاير للحياة، أي هو خلق من خلق الله، كما قال تعالى: «الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور» «الملك:2»، وليس هو كائن بذاته، وهذا الأمر يسهل تقبله إذا نظرنا إليه بهذا الشكل، وإماتة الله الإنسان في أغلبها كما هو ملاحظ عبارة عن زرع الأسباب المؤدية إلى الموت، فليس ببعيد أن يجسم الله من هذه الأسباب شكلاً يريده، ثم يتم ذبحه ليزداد يقين أهل الجنة وأهل النار بالبقاء والخلود.
وبعد ذكر ماتقدم نخلص إلى تأكيد العلاقة الوطيدة بين العقل والقياس، وهذه العلاقة ليست علاقة تقابل، بل عد القياس جزءاً لايتجزأ من العقل، وبالتالي تكون العلاقة بينهما علاقة عموم وخصوص مطلق؛ فالعقل أعم مطلقاً من القياس بأعتبار أنه يشمله ويشمل غيره، والقياس أخص مطلقاً من العقل بأعتبار أن كل ماكان من القياس فهو من العقل، وبالتالي لايخرج فرد من أفراد القياس من دائرة العقل، ويمكن أن نمثل للعلاقة بينهما بدائرتين إحداهما وهي العقل تحيط بالأخرى التي هي القياس،
ولابد من التأكيد أن هذا القياس لم يكن تأثيره محصوراً على مستوى الحديث، بل أثر في دلالات القرآن، حيث نجد أن المعتزلة تؤول الآيات التي تصور الغائب على خلاف الصورة التي أمامنا، وبالتالي لايمكن أن يكون الغائب مخالفاً للصورة التي تقع أمامنا ولتأكيد ما قلناه بشكل تطبيق نقتصر على نموذجين من تفسير الزمخشري، لإثبات مدى تأثر المعتزلة بهذا القياس، ففي سؤال الله تعالى لجهنم: يقول الزمخشري «ت:538» عند قوله تعالى:« يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد» «ق:30»" وسؤال جهنم وجوابها من باب التخييل، الذي يقصد به تصور المعنى في القلب وتثبيته73" فمن الملاحظ أن حمل سؤال جهنم وجوابها على معنى التخييل، على خلاف الظاهر من النص، فالظاهر هنا غير مستبعد، وهو أن يقع السؤال والجواب، فالقدرة الإلهية صالحة لخلق ذلك في النار، ولايعنينا هنا مناقشة رأي الزمخشري بقدر مايعنينا، أثر هذا القياس في عملية العدول عن ظاهر النص، والعدول هنا جاء قياساً لحالة غائبة، وهي النار يوم القيامة على حالة مشاهدة، وهي نار الدنيا، ولما كانت نار الدنيا لاتعي ولاتتكلم فلتكن كذلك نار الآخرة«74».
وفي خطاب الله للسموات والأرض: يقول الزمخشري عند تفسيره لقوله تعالى:«ثم أستوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين» «فصلت:11»" ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد تكوينهما، فلم يمتنعا عليه... وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل، ويجوز أن يكون تخييلاً.. والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لاغير، من غير أن يحقق شيئاً من الخطاب والجواب"«75»، وماقلناه في الآية السابقة ينطبق على هذه الآية.
خامساً: القيمة العلمية لهذا القياس:
لابد من الاعتراف أنه يستعصي علينا أن نقدم تقويماً علمياً لهذا القياس الذي استخدمه المعتزلة، وسار على نهجهم الأشعرية«76» والماتريدية«77»، لأن الأمر يستدعي دراسة تخصصية يقتصر البحث فيها على القيمة العلمية لهذا القياس عند المعتزلة، ومع هذا سأحاول إعطاء فكرة عن مكانته بما يتسع المقام له، إذ يبدو أن الدافع لهذا القياس الذي استخدم في مقام الإلهيات أكثر من غيره هو محاولة الكشف عما هو مجهول بالنسبة للقائس، وهذا الأمر واضح من خلال تعريفه كما سبق، إذ هو عبارة عن إلحاق ما لم يعلم بما هو معلوم، ليكون غير المعلوم معلوماً من خلال قياسه على المعلوم، وهنا لابد من التساؤل: هل هناك داع لمعرفة ماهو مجهول حتى نتعرف بالقياس على المعلوم؟
فليس ثمة داع للخوض في هذا القياس فيما يتصل بالإلهيات، لأن ماهو مجهول منها لايعد ذا قيمة، ولو كان ذا قيمة، لما تركه الله غامضاً، وهذا الجواب يستند على جانب نظري وآخر تطبيقي:
ففي الجانب النظري لايعد هذا القياس مفيداً فيما يتصل بالإلهيات وهذا الجواب يستند على عدة معطيات، منها: أن هذا القياس استخدم بين المتكلمين أنفسهم، وقلما استخدم بين علماء المسلمين، وأرباب الملل المخالفة، وهذا واضح من خلال المعتزلة أنفسهم، فقد صرحوا أنه أكثر مايستخدم في الصفات الإلهية، والعدل الإلهي«78»، والبحث في هذين المحورين يختص بالمسلمين أكثر من غيرهم«79»، وكذا استخدمه الأشعرية والماتريدية في إثبات الصفات الإلهية«80»، وإذا كان أكثر استخدامه بين المتكلمين فلا داعي له، لأن هذه القضايا التي نريد التوصل إليها؛ إما أن نجدها في القرآن وإما أن لانجدها، فإن كانت موجودة فلاداعي للخوض فيها؛ لأن القرآن يكفينا مؤونة البحث في هذه القضايا من جهة الجهد المبذول، ومن جهة الضمان في عدم الانزلاق في الخطأ، ولو كانت على قدر من الأهمية لما أعرض الله عن ذكرها.
ولايُفهم من هذا الدعوة إلى الاقتصار على ماورد في القرآن فقط في كل المسائل المتصلة بالإلهيات، بل المقصود هنا أن ماكان محصوراً بين المسلمين، وكان من القضايا المتصلة بالصفات الإلهية فلا داعي للخوض فيها، إن لم يرد ذكر ذلك في القرآن.
أما المعطى الثاني: فهو أنه أكثر الصفات الإلهية وقضايا العدل التي ذكرها المتكلمون، ذكرها الله في القرآن، ولهذا نجد أن الله أسند لنفسه القدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والحياة، وهذه هي أبرز الصفات التي حاول المتكلمون إثباتها بالاستناد إلى هذا القياس، والوقوف على هذه الصفات، كما ذكرها القرآن، هو المنهج السديد في هذه المسائل مادامت هذه القضايا مطروحة بين المتكلمين المسلمين، أي أن هذه القضايا لاتحتاج إلى أدلة إضافية للإيمان بها، فيكفي أن تؤمن بالله لتؤمن من بعد بكل ماذكره الله من صفات ومغيبات، ولعلنا نجد في منهج القرآن تعزيزاً لما قلناه؛ حيث نلحظ أن القرآن عندما يخاطبنا في مسائل غيبية، كوجود الجن والملائكة والجنة والنار، لايحاول أن يثبتها بالأدلة، بل أغلب مايذكره يندرج في إطار الوصف لهذه الغيبيات، والوصف ليس إثباتاً، ويكفي أن نستدل على هذا أن الله تعالى ذكر الجنة أكثر من مائة وثلاثين مرة، وقد خلا ذلك من أي دليل عقلي على وجودها، وتفسير ذلك أن الله عندما يذكر الجنة يخاطب بها المؤمن، والمؤمن لايحتاج إلى دليل عقلي لإثباتها؛ إذ هي فرع مترتب على أصلٍ، وهو الإيمان بوجود الله ووحدانيته، ومن كان أمره كذلك يؤمن بشكل مباشر بوجود الجنة، لأن الإيمان بها فرع عن الإيمان بأن هذه الكلام من الله، وهذا الأخير متفرع عن الإيمان بوجوده، ولذا فهو سبحانه لايستدل في إثبات الأصل على الفرع، والصفات الإلهية قريبة من هذا الجانب؛ إذ من السهل أن تؤمن بكل الصفات الإلهية التي ذكرها القرآن بمجرد إيمانك بوجوده ووحدانيته.
أما إن تجاوزت المسألة المسلمين وأصبحت القضية مطروحة بين المسلمين والملل الأخرى، فإن هذا القياس مجد، لأن أصل الخلاف لن يكون في أغلبة دائراً حول الصفات وقضايا العدل، بل سيكون متركزاً على قضيتين جوهريتين هما الوجود والوحدانية؛ فمن كان ينكر الوجود أو الوحدانية، فلن يخوض في مسائل الصفات من القدرة والسمع والبصر.. ومن كان يؤمن بذلك فمن السهل الإيمان بالصفات لأنها الفرع، وهو ليس بحاجة بعد ذلك أن يدخل في فرعيات هذه الصفات وأحكامها، ككون الصفة عين الذات أم غير الذات، لأنه لايمكن إثبات ذلك أو نفيه إلا قياساً للخالق على المخلوق، وهذه من العيوب التي جرها قياس الغائب على الشاهد، والجدل بين المتكلمين أنفسهم.
والمعطى الثالث: هو أنه لايمكن إجراء هذا القياس من الناحية التأسيسية، وذلك لوجود المغايرة بين الخالق والمخلوق، فكيف نقيس الخالق على المخلوق، ونحاول أن نثبت لله أوصافاً أستناداً إلى المخلوق، ولنأخذ مثالاً على ذلك صفة العلم؛ كيف نثبت هذه الصفات بالاستناد على علم المخلوق، وعلم الله يغاير علم المخلوق من جميع الوجوه، فعلمه تعالى قديم، وعلم الإنسان حادث، وعلمه تعالى شامل، وعلم الإنسان نسبي قاصر، وعلم الله تعالى باق مستمر، وعلم الإنسان فان، يفني بفناء الإنسان، وحتى مع وجود الإنسان، فعلمه عرضة للآفات، فكيف نقيس علم الله على علم الإنسان! والحال هذه، وفي هذا السياق يقول الجويني «ت:478»: "فأما بناء الغائب على الشاهد فلا أصل له.. والجمع بالحقيقة81 ليس بشيء، فإن العلم الحادث مخالف للعلم القديم، فكيف يجتمعان في الحقيقة مع اختلافهما"82 وهذا النقد يتجه إلى العلة، فالعلة الموجودة في الشاهد غير متحققة في الغائب، لاختلاف الحقائق المكونة لعلم الإنسان، والأحكام المتصف بها علم الله، وإذا اختلفت الحقائق، فالعلة غير متحققة، وذلك يهدم القياس، لعدم توافر العلة، وهي من أهم أركانه، وهذا النقد الاختلاف بين الخالق والمخلوق هو أهم نقد يمكن أن يوجه إلى هذا القياس، فيما يبدو لي.
وقد يعترض على ماقلناه بأن "اختلاف الهوية المشخصة ليس مطلقاً عقبة في سبيل الجمع بين العلتين؛ لأن القائس لاينظر إلى خصوصيات المحال، ولكن إلى عمومياتها، فيقطع بهذا عقلاً وعادة وشرعاً، أما عقلاً فلأنّا نقطع أن المحل يصير أسود أو أبيض، أو عالما لعموم هذه المعاني، وأما عادة فلأنا نعلم أن زيدا احترق بيته بهذه النار، لا لأنه هذا البيت، ولا لأنها هذه النار، ولكن هذا بيت وهذه نار، أما خصوص البيت وخصوص النار، فلا صلة لها بالاحتراق؛ وأما شرعاً، فإننا نرجم الزاني، لا لخصوص زناه، ولكن لما صدر منه من مفهوم الزنا، فإذا مانظرنا إلى هذه العموميات أمكن الجمع بالعلة، وهنا يصل الباحث إلى درجة اليقين"83.
وخلاصة هذا الاعتراض أن الجمع بين الشاهد والغائب لاينظر فيه إلى خصوصيات كل من الغائب والشاهد، بل إلى ما يعم كلاً من الشاهد والغائب، وهو في مثالنا السابق، مطلق العلم دون النظر إلى خصوصيات علم الله من أقدمية وشمولية وبقاء إذا ماقورن بعلم الإنسان، وإلى خصوصيات علم الإنسان من حدوث ومحدودية وزوال إذا ماقورن بعلم الله؛ أي ينظر إلى القاسم المشترك بين علم الله وعلم الإنسان، والقاسم المشترك هو الإحكام والإتقان في الصنعة من قبل الشاهد والغائب، بغض النظر عن جزئيات الإتقان والإحكام ومواضعها، ويعد هذا الاعتراض هو الاعتراض الوحيد الذي يمكن أن يرد به على النقد السابق للجمع بين الشاهد والغائب، وهذا هو المسوغ لنقل الاعتراض كاملاً، غير أن هذا الاعتراض لايسلم من الخلل، فالمواضع التي استشهد بها تغاير القضية التي نحن فيها، فهو نوع من القياس مع الفارق، كما أن هذه المواضع لم يعتمد فيها على ماهو عام بل على الخصائص المكونة له، ويكفي لإثبات ذلك الوقوف على بعض الأمثلة التي ساقها المعترض.
فنفي خصوصية النار والبيت في عملية الإحراق، والوقوف عند مسمى النار ليس سديداً، لأنه ليس كل بيت قابلاً للاحتراق لمجرد وقوع النار فيه، وليس أي نار حارقة لما يمكن أن نطلق عليه بيت، ويبين ذلك أن النار الحارقة لابد أن تكون على أوصاف معينة، من القوة والاتساع... عندما يكون الاحتراق مرتبطاً ببيت يعسر على نار قليلة إحراقه، ولذا عندما تقع عملية الإحراق لبيت مكون سقفه وجدرانه من الخشب، مشيدة من الحجارة إلا مع تصور الفارق بين النارين، فليس كل نار حارقة للبيت الأول قادرة على إحراق البيت الثاني.
ومثل ذلك الزنا، فلا يقع الجلد أو الرجم إلا ضمن شروط معينة، بل إن مفهوم الزنا نفسه لايقع إلا مع توافر شروط معينة، ولهذا قد نجلد الزانيين، وقد نجلد الرجل فقط إذا تبين انتفاء الرضى والطواعية من قبل المرأة، لأنه لم يتحقق منها الزنا بالمفهوم الذي يوجب الجلد، وعدم تحقق ذلك يعني أن للخصوصية أثرها، ولعله يقصد بالخصوصية الشكل الذي وقع به الزنا، أي أن الهيئة التي وقع بها الزنا لا أثر لها في العقوبة، وهذا صحيح، لأن الهيئة لاتصلح أن تكون علة للعقوبة، لأنها وصف غير صالح لتعليق العقوبة عليها، وذلك لاضطرابها، ولكن هذا المثال لايصلح دليلاً، لأن هذا الخصوص «الشكل» ليس مكوناً أساسياً من مكونات الزنا، ولو كان مكوناً لما أهمله الشارع، بدليل أن الشارع لم يهمل مسألة الرضى والطواعية عند الزاني، ولذا لاتقع العقوبة على المكره، وليس هذا كمنع قياس علم الله على علم الإنسان، لأن لعلم الله خصوصيته، ولعلم الإنسان خصوصيته، بينما لاخصوصية للهيئة التي تقع بها الزنا، ولذا نجلد الزناة مع إهمال هذه الخصوصية، وهذا ماقصدته بالقياس مع الفارق.
أما في الجانب التطبيقي فلا يمكن تطبيق هذا القياس في الجانب الإلهي، وذلك لعدم وجود ضوابط واضحة في استعماله، ورغم أن المتكلمين قاموا بتطبيقه، إلا أن الناظر في هذه التطبيقات يجد عملية انتقائية في تطبيقه، ولنذكر نموذجاً على هذا، وهو رد القاضي عبدالجبار على دليل صفة الكلام عند الأشعري «ت:324» حيث استدل الأشعري على أن الله متكلم بالقياس على الشاهد، فلو لم يكن متكلماً لكان موصوفاً بضد الكلام من الخرس وغيره، وشأن الكلام كشأن العلم، فلو لم يكن موصوفاً بالعلم لكان موصوفاً بضده، وهذا هو حكم الحي فينا، ولم تقم دلالة على خلو الغائب من الكلام وأضداده، كما لم تقم دلالة على خلوه من العلم وأضداده، ولو جاز وجود حي غير متكلم ولاموصوف بضد الكلام لجاز، وجود عالم غير متكلم ولا موصوف بضد الكلام، فلمّا استحال ذلك فيما بيننا، استحال أن يكون الله لامتكلماً، ولا موصوفاً بضد الكلام، وإذا استحال ذلك وجب أن يكون الله متكلماً«84».
ومن الواضح أن دليل الأشعري عبارة عن إلحاق الغائب بالشاهد، وقد ذكر القاضي عبدالجبار هذا الدليل مختصراً ثم ذكر هذا الاستدلال قائلاً: "وعندنا أن العلة التي أقتضت هذا الحكم في الشاهد غير ثابتة في الغائب، وذلك أن أحدنا لايتكلم إلا بآلة فهي «أي الآلة» إذا اختصت بآفة وضرب من ضروب المنع، وصف الحي بأنه أخرس وإن كانت صحيحة"85". فيرى القاضي أن العلة لاتصلح أن تكون جامعاً بين الشاهد والغائب، لأن الشاهد يتكلم بلسانه، والله منزه عن ذلك ، والذي أريد الوصول إليه هنا، أن القاضي وقع في عملية انتقاء وانتخاب، حيث سعى إلى إيجاد مبررات لنقد هذا القياس، لأن المعتزلة لاتقول بوجود صفة الكلام، في حين أن هذا القياس قد استخدمه في إثبات كون الله قادراً وعالماً وسميعاً وبصيراً، والاعتراض الذي وجهه إلى الدليل السابق يمكن أن يوجه إليه، ولنأخذ من ذلك إثبات صفة القدرة الإلهية، فالله عنده قادر لأنه "قد صح منه الفعل، وصحة الفعل تدل على كونه قادراً... أما الذي يدل على أنه تعالى قد صح منه الفعل، فهو أنه قد وقع منه الفعل وهو أجسام العالم.. وأما الذي يدل على أن صحة الفعل دلالة على كونه قادراً، فهو أنا نرى في الشاهد جملتين، أحدهما صح منه الفعل كالواحد منا، والآخر تعذر عليه الفعل كالمريض"«86».
والناظر في هذا النص لايجد تفرقة بين هذا الاستدلال لإثبات كون الله قادراً، وبين استدلال الأشعري، لإثبات صفة الكلام لله، ولكن القاضي لما كان لايرى وجود صفة لله تسمى صفة الكلام«87» رد على دليل الأشعري بأن العلة لاتصلح للجمع، وهذه انتقائية، لأن الاعتراض الذي اعترض به على الأشعري يرد عليه؛ إذ يمكن أن يقال له إن العلة التي اقتضت هذا الحكم في الشاهد غير ثابتة في الغائب؛ لأن أحدنا لايقدر إلا بآلة، فيمتنع القياس، وكما يقال عن القدرة يقال عن الصفات التي أسندها المعتزلة لله من كون الله عالماً وسميعاً وبصيراً، لأنها كلها تقوم بالاستناد على هذا القياس«88».
وزيادة على هذا الانتقاء فإن هذا التطبيق جر المتكلمين إلى تصورات عجيبة جعلت من الخالق مماثلاً للمخلوق، وأكثر ماوقع فيه المعتزلة، وماكان يتخيل المرء من المعتزلة الذين دفعوا كثيراً من الأحاديث التي توهم التشبيه والتجسيم في نظرهم كأحاديث الرؤية، يعود عليهم هذا القياس بالتشبيه الذي فروا منه، وليس من المبالغة القول إنهم دخلوا في التشبيه من حيث لايشعرون، وإنهم أكثر المدارس الكلامية استخداماً للقياس وإسرافاً فيه؛«89» حيث أخذوا يتحدثون عن الله، وكأنهم ناظرين له، بل كأنه واحد منهم، فأوجبوا له كثيراً مما أوجبوه على أنفسهم، وأجازوا على الله كثيراً مما أجازوه على أنفسهم، ومرد ذلك إلى الثقة المطلقة بهذا المنهج.
وهذا المنهج كما قادهم إلى نوع من المشابهة فقد جرهم إلى الحد من صلاحية هذا الإله وقدرته، وهذا نتيجة القياس على المخلوق الضعيف المحدود القدرة.
ونكتفي بذكر بعض النماذج التي جرها هذا القياس، التي جعلت المعتزلة يصورون الإله كأنه إنسان من حيث لايشعرون، يقول القاضي في معرض إنكاره لرؤية الله: "أعلم أن مايصح أن يرى، لايجوز أن يختص بصحة رؤيته بعض الرائين دون غيره، كما أن مايصح أن يعلم لايجوز أن يختص بصحة العلم به بعض الأحياء دون بعض.. فإذا صح ذلك.. فلايجوز إذا أن يرى القديم شيئاً يستحيل أن نراه، كما لايصح أن يعلم مايستحيل أن نعلمه"«90» وعدم جواز أن يرى الله مالا نراه، لأنه "لايجوز أن يقع في المرئيات اختصاص.. وإنما وجب ذلك، لأن المرئي لايحصل بالرائي على بعض الصفات، بل يراه على ماهو به"«91».
فالناظر في هذا القول يجد فيه إسرافاً عجيباً، فكيف نجري أحكام الخالق على المخلوق، وكلمة المخلوق رمز إلى العجز والضعف... وهذا ليس من صفات الإله!؟ فهل قوانين الدنيا وأحكامها التي تلزم المخلوق وينضبط بها تلزم الخالق!؟ ثم ماهو الميزان الذي نحكم به على مايصح أن يرى ومالايصح، ومايصح أن يعلم ومالا يصح، حتى نقيس عليه الغائب!؟
ثم ما الدليل على أنه ليس هناك اختصاص في المرئيات؟!، أليس من الممكن أن يرى الله أشياء يختص برؤيتها هو دون غيره؟ يجيب القاضي عن ذلك بأن المرئي إذا كان ضمن شروط معينة فينبغي أن يرى بناء على هذه الشروط، وإذا فقدت هذه الشروط لم يصح أن يرى على مستوى الشاهد والغائب؛ أي كأن شروط الرؤية متصلة بالمرئي أكثر من الرائي، فعدم رؤيتنا للشيء مع توافر شروط الرؤية، دلالة على أن المرئي لايُرى من قبل الشاهد والغائب، ولهذا حكموا على الله بأنه لايرى مالا يصح أن نراه.
وقد رتبوا على هذه المسألة مسألة أخرى، وهي عدم جواز رؤية الله لنفسه، وهذا إيغال في استخدام هذا القياس، بل هو إسراف مابعده إسراف، وخوض في مسألة، لا العلم فيها نافع، ولا الجهل فيها ضار، يقول القاضي في هذا السياق: «فإذا دللنا على أنه لايصح أن نراه على وجه من الوجوه، وفي حال من الأحوال فيجب القضاء باستحالة كونه رائياً لنفسه، كما إذا ثبت أنه يستحيل أن نسمعه وندركه كإدراك الوجوه"«92». إذاً يربط المعتزلة بين عدم رؤيتنا لله الآن وبين عدم رؤيته تعالى لنفسه، والجامع بينهما أنه لو كان يرى لرأيناه إذا ارتفعت الموانع المانعة من الرؤية كالبعد والحجاب..«93»، والموانع مرتفعة؛ لذا لايصح أن ندعي عدم رؤيته بواحدة من الموانع كالبعد أو وجود آفة في العين..«94» فإذا لم نره مع ارتفاع هذه الموانع دل ذلك على عدم رؤيتنا له، وبالتالي على عدم كونه رائيا لنفسه.
لكن لماذا رتب المعتزلة على عدم رؤيتنا له تعالى أنه لايرى نفسه، أي ألا يمكن أن لانراه ومع ذلك يرى هو نفسه؟ يجيب القاضي عن ذلك بأن عدم رؤيتنا يرجع إلى كونه غير مرئي في ذاته، أي لايصح أن يرى، وإذا كان الأمر كذلك "فيجب القول باستحالة كونه رائيا لنفسه، كما أنّا إذا لم نسمعه.. وجب القضاء بأنه لايسمع نفسه، وكما إذا لم نر المعدوم لعدمه، وجب القضاء بأنه تعالى لايجوز أن نراه"95.
هذا النص يرجعنا إلى القاعدة السابقة التي ذكرها المعتزلة، وهي المساواة بين الغائب والشاهد، التي تقول:"لايصح أن يرى القديم شيئاً يستحيل أن نراه"، ولما كانت رؤيته تعالى محالة علينا لما يؤدي في نظرهم إلى التشبيه والتجسيم، كان الله لايرى نفسه، لأنه لو رأى نفسه لجاز أن يُرى من قبل غيره؛ إذ لا اختصاص في الرؤية عند المعتزلة لاشاهدا ولا غائباً، ولكن أما تساءل المعتزلة كيف يرى الله غيره، ولايرى نفسه! وليس القصد من هذا إثبات رؤية الله لنفسه، بل القصد إلزام المعتزلة بنتائج سيئة تترتب على التزام هذا المنهج «القياس» واستعماله إلى حد الغلو والإسراف في الإلهيات.
يضاف إلى ماتقدم عدم انسجام أغلب الأشعرية مع أنفسهم في التعامل مع هذا القياس، ولاننسى أن إثبات الصفات الإلهية عند الأشعرية قائم على هذا القياس96، وعدم الانسجام يدل على وجود مأزق فكري في التعامل مع هذا القياس، وهو مايعد تجريحاً في هذا القياس وتقليلاً من قيمته، مما يعني ضرورة استبعاده فيما يتصل بالصفات الإلهية، ويظهر عدم الانسجام في الفكر الكلامي الأشعري من الجانب التأسيسي والتطبيقي المتصل بهذه القياس، ونقصد بالانسجام عدم التساوق بين الموقف التأسيسي/ النظري والموقف التطبيقي العملي، أي أنهم رفضوا القياس من الناحية التأسيسية، ولكنهم عجزوا عن التخلي عنه من الناحية التطبيقية.
فمن الناحية التأسيسية نجد كثيراً من الأشعرية المتأخرين رفضوا هذا القياس، لأنه لايوصل إلى اليقين، وأقدم من رفضه فيما اطلعت عليه الجويني «ت:478»، وفي هذا يقول: "فأما بناء الغائب على الشاهد فلا أصل له"97 وسلك هذا المنهج الغزالي «ت:505»98 وسار من بعدهما الشهر ستاني «ت:548» والرازي «ت:606»99 والآمدي «ت:631»100، بينما قبله كل الأشعرية من الناحية التطبيقية سوى الآمدي101وعلى هذا الأساس نجد الجويني قبله، 102 وكذا قبله الغزالي وقام بتطبيقه،103 ومن الذين قبلوه تطبيقاً الشهر ستاني والرازي 104، هذا الاختلاف الواقع بين النظر والتطبيق يشعر المرء بوجود مأزق في هذا القياس لدى الأشعرية، وهو مايومئ إلى عدم اطمئنانهم له.
الخاتمة
اعتماداً على ماسبق فإنه لافرق من حيث المضمون بين قياس الغائب على الشاهد وهو القياس الكلامي، وبين قياس التمثيل وهو القياس الأصولي، وقد كون قياس الغائب على الشاهد جانباً مهماً من العقل الاعتزالي، وأكثر ماتبدى ذلك في إثبات الصفات الإلهية عند المعتزلة كالقدرة والعلم.. وكذا كان له دور أساسي في العدول عن السنة النبوية، وقياس الغائب على الشاهد إسلامي النشأة، كما أنه لم يكن موطن اتفاق من قبل العلماء؛ لأنه يقود في نظر من اعترض عليه إلى تعطيل صفات الله.
وكثير من المتكلمين لم يستطيعوا التخلص منه تطبيقاً على الرغم من الاعتراض عليه نظرياً، فيظهر مما سبق أن هذا القياس لايوصل القائس إلى القين، وقد أوقع هذا القياس المعتزلة في مزالق ومتاهات، وجرهم إلى تشبيه الله بمخلوقاته.
الهوامش
باحث سوري،دكتور في قسم العقائد والأديان بكلية الشريعة ،جامعة دمشق
1 أمين،أحمد ،.ضحى الإسلام القاهرة:مكتبة النهضة المصرية ،1963،ج1،ص138 139
2 الشابي ،علي ،مباحث في علم الكلام والفلسفة ،تونس:دار بوسلامة،1977،ص31
3 المصدر السابق،وانظر فتح الله،خليفة .محاضرات في الفلسفة الإسلامية،القاهرة: دار الجامعات المصرية،1979م ص51.
4 الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار بن أحمد الهمداني،شرح الأصول الخمسة،القاهرة:مكتبة وهبة ،1996م،ص284290.
3 سلطان منير،إعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة ،الإسكندرية:منشأة المعارف 1977م،ص54.
6 وأحياناً لايُذكر هذا القياس،في رسائل تتحدث عن نظرية المعرفة عند المعتزلة،وإن ذكر فإنه لايأخذ حقه من الدرس،مع العلم أن هذا القياس من أهم مكونات المعرفة عند المعتزلة،من ذلك أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم الإسلامية،المعهد الأعلى لأصول الدين ،جامعة الزيتونة في تونس،التي تقدم بها"فافي فؤدي شريف "تحت عنوان"نظرية المعرفة عند المعتزلة" ولم يلق بالاً لهذا القياس،إلا فيما يتصل بمصدر القياس،فقد ذكر ذلك بشكل سطحي ،بقول شريف:" وفي المسائل التي تأثر المعتزلة باليونان،مسألة قياس الغائب على الشاهد" ص112.
ولم يكشف كيف تأثر المعتزلة بالفكر اليوناني؟وقبل ذلك وعد بأنه سيولي اهتماماً خاصاً بالقياس عند المعتزلة ،لمعرفة "هل كان ذلك تأثراً بالفكر اليوناني ،أو بالفكرالإلهي الذي تربّوا عليه؟" م. س.ص 111 ولكنه لم يفِ بما وعد.
7 راغب،نبيل ،دليل الناقد الأدبي ،القاهرة :مكتبة غريب .1981 ،ص3244.
8 الباقلاني .أبوبكر محمد. تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل،تحقيق عماد الدين أحمد حيدر،بيروت:مؤسسة الكتب الثقافية 1987،ص32 ،ويقول الغزالي في تعريفه:"أن يوجد حكم في جزئي معين واحد فينقل حكمه إلى جزئي آخر يشابهه بوجه ما"،الغزالي ،أبوحامد محمد بن محمد معيار العلم في فن المنطق ،تحقيق علي أبو ملحم ،بيروت ،دار ومكتبة الهلال 1993.ص 138 139.
9 الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار بن أحمد الهمداني،المجموع في المحيط بالتكليف،تحقيق الأب جين يوسف اليسوعي،بيروت : المطبعة الكاثوليكية،1980،1980 ص114115 ،النيسابوري ،أبورشيد سعيد في التوحيد،تحقيق عبدالهادي أبو ريدة،القاهرة: المؤسسة المصرية العامة ،1965،ص493.
10 الغزالي.معيار العلم في فن المنطق ،مصدر سابق ،ص138 139
11 الشيرازي ،أبوأسحق إبراهيم ،اللمع ،بيروت:دار الكتب العلمية ،1985،ص96.
12 حبنكة،عبدالرحمن حسن ،ضوابط المعرفة ،ط3 ، دمشق :دار القلم .1988،ص228 ،وانظر: جليل الدين،سعيد .معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية،تونس:دار الجنوب للنشر ،د.ت ،ص367.
13 حبنكة ،عبدالرحمن،ضوابط المعرفة ،مصدر سابق ،ص228.
14 ابن تيمية ،تقي الدين أبوالعباس أحمد..درء تعارض العقل والنقل تحقيق محمد رشاد سالم،الرياض :دار الكنوز الأدبية ،1391ه ،ج6 .ص126.
15 أحمد،عطاالله مختار محمود ." مناهج الاستدلال لدى المتكلمين والفلاسفة المسلمين" «رسالة دكتوراه ،كلية دار العلوم ،جامعة القاهرة » ص334
16 ابن فورك أبو بكر محمد مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري،بيروت:دار المشرق 1986 ،ص286.وانظر :الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار ،المجموع في المحيط بالتكليف ،مصدر سابق ،ص164،المرشدي ،عبدالعزيز عبداللطيف ."قياس الغائب على الشاهد في الفكر الإسلامي ".«رسالة دكتوراه،جامعة الأزهر ،كلية أصول الدين بالقاهرة» ص27 28.
17 ابن فورك ،مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري ،مصدر سابق ،ص286.
18 االأسد أبادي ،القاضي عبدالجبار،المجموع في المحيط بالتكليف ،مصدر سابق ،ص164.
19 قد يقال كيف نُدخل الله من الجانب العرفي في خانة غير المعلوم،مع أنه معلوم من حيث صحة الاستدلال على وجوده؟ويجاب عن ذلك:أنه ليس بمعلوم في المواضع التي يراد علمها من خلال عملية القياس،وليس المقصود بغير المعلوم أنه مجهول بشكل كلي،،ولذلك نجد المتكلمين يدخلون الله ضمن مايسمونه بالغائب،ويقصدون بالغائب ماليس بمعلوم،وقد نقلنا في الصفحة السابقة قول القاضي:"وماليس بمعلوم غايباً" .ويقول الغزالي:"والمعنى بالغائب ماغاب عن علمك فترده إلى ماعلمته» الغزالي ،أبوحامد محمد بن محمد .المنخول= من تعليقات الأصول،تحقيق محمد حسن هيتو،ط2،دمشق :دار الفكر،1980،ص53 ،ومقصودهم بذلك أنه ليس بمعلوم في المواضع التي يراد معرفتها من خلال عملية القياس ،مع أنه معلوم وجوده ووحدانيته ...فالتسمية بالغائب فيها نوع من التجوز.
20 الشيرازي ،اللمع ،مصدر سابق ،104ص.
21 الغزالي ،المنخول،.مصدر سابق ،ص5354.
22 يقصد أن تصرفاتنا لاتقع بذاتها وإنما منا.
23 الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار،المجموع في المحيط بالتكليف ،مصدر سابق ،ص165166.
24 الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار،شرح الأصول الخمسة مصدر سابق ،ص151152.157158.161.168.203.وانظر:الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار ،المغني في أبواب التوحيد والعدل،تحقيق الأب ج.ش.قنواتي ،مراجعة إبراهيم مدكور ،إشراف طه حسين ،القاهرة: وزارة الثقافة والإرشاد القومي ،د.ت.ج5،ص 219220.240242.ج6،ص220،الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار ،المجموع في المحيط بالتكليف مصدر سابق ،ص113115.121.131.157158،161.168.203.
25 لابد من التأكيد أن أهل السنة متفقون مع المعتزلة في أن الله لايفعل القبيح، ولكن الخلاف في تطبيقات هذا المبدأ،فالمعتزلة فهموا القبيح فهماً مغايراً لفهم أهل السنة ،مماأدى إلى اختلاف في النتائج،حيث نجد المعتزلة تفهم الشفاعة لمن مات مرتكباً للكبيرة نوعاً من القبح،ولذا انكرت الشفاعة بهذا المفهوم،لأن الشفاعة لمن هذه حاله "يتنزل منزلة من قتل ولد الغير،وترصد للآخر حتى يقتله ،فكما أن ذلك يقبح فكذلك هاهنا» الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار ،شرح الأصول الخمسة ،مصدر سابق ،688.
26 المصدر السابق،ص32
27 الغزالي، أبوحامد محمد بن محمد القسطاس المستقيم.دمشق: دار الفكر ،1996،ص 207،ويقول الآمدي: "إن أصل الخصم فيما يرجع إلى وجوب رعاية الصلاح والأصلح في حق الباري تعالى، ليس إلا بالنظر إلى الشاهد "الآمدي،سيف الدين علي بن أبي علي،غاية المرام في علم الكلام،تحقيق حسن محمود عبداللطيف،القاهرة:المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ،11971،ص229.
28 انظر في هذه المسائل: الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار ،المغني ،مصدر سابق ،ج 7،ص 4849،الأسد آبادي،القاضي عبدالجبار .شرح الأصول الخمسة،مصدر سابق ، ص332333.493495.الجشمي،الحاكم،تحكيم العقول في تصحيح الأصول،تحقيق عبدالسلام بن عباس الوجيه،عمان:مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية،2001.،ص117.123.143.
29 الأسد آبادي،القاضي عبدالجبار،المجموع في المحيط بالتكليف ،مصدر سابق ،ص166،.ولهذا نجدالقاضي عند الجمع بالعلة يحاول إثبات أن العلة في ترك القبيح في الشاهد هو علمه وغناه دون سوى ذلك من العلل الأخرى "فإن قيل ومن أين أن العلة في ذلك ما ذكرتموه من علم الشاهد بالقبح واستغنائه عنه حتى تقيسوا الغائب على الشاهد؟ قلنا لأن العلة ليست بأكثر من أن يثبت الحكم بثباتها،ويزول بزوالها،وليس هناك ما تعليق الحكم عليه أولى"الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار ،شرح
الأصول الخمسة،مصدر سابق ،ص33، ويفه من هذا أمران : الأول: أنه ذكر شرط العلة، وهو دوران الحكم معها وجوداً وعدماً ،فإذا وجدت وجد الحكم ،وإذا عدمت عدم الحكم، ،وهذا مايسمى عند المتكلمين والأصوليين بالطرد والعكس ؛أي أن تطرد /توجد العلة مع الحكم حيثما وجد ،وتنعكس /تنعدم العلة حيث عدم الحكم،ويجمع العكس والطرد مصطلح "دوران العلة وجوداً وعدماً" و،الثاني" يستشف من قوله السابق أنه قام بعملية فحص للأوصاف التي يمكن أن تكون علة،ومن ثم استبقاء مايصلح أن يكون علة،وهو علم الشاهد بالقبح ،وغناه عنه،واستبعاد ماسوى ذلك من الأوصاف التي لا يصلح التعليل بها،أي قام بعملية سير وتقسيم على حد تعبير الأصوليين.ولهذا نجد القاضي يعترض على الأوصاف الأخرى التي يمكن أن يراها المخالف علة،انظر.المصدر السابق .ص303 304.
30 يقول نشأت عبدالجواد محمد ضيف في معرض حديثه عن أثر الفلسفة اليونانية في الفكر المعتزلي:"الفلسفة اليونانية كانت القاعدة التي ارتكزت عليها عقلية المعتزلة.. وكل ما نجده في مباحثهم الكلامية تقريباً من برهان وجدل ومناقشات..ماهي إلا نتيجة مباشرة لتأثرهم بالمنطق والفلسفة اليونانية"،عبدالجواد،نشأت ."المعتزلة واتجاههم العقلي،وأثره في تطور الفكر الإسلامي" .«رسالة دكتواره،كلية أصول الدين،جامعة الأزهر»،ص132،.وهذا القول لايخلو من غلو،فهل هذه المناهج هي حكر على الفكر اليوناني؟ثم هل مباحث المعتزلة المتصلة بالإلهيات والغيبيات والنبوات...هي أثر من آثار الفكر اليوناني؟ألم يجد المعتزلة في الدين الإسلامي دعوة ملحة إلى إعمال العقل؟ ولم لايكون هذا مصدراً أساسياً للعقل المعتزلي ،سيما أن أغلب المناهج التي درج على استخدامها المتكلمون نجدها في القرآن الكريم؟انظر المصدر السابق،ص6991.
وأكثر من حاول أن يجعل الفكر اليوناني حسب ما اطلعت عليه مصدراً للمعتزلة هو الدكتور ألبير نصري نادر،حتى إنه جعل ردود المعتزلة على المشبهة والمجسمة مقتبسة من الفكر الأرسطي! انظر:نادر، ألبير نصري،فلسفة المعتزلة:فلاسفة الإسلام الأسبقين .الإسكندرية: مطبعة دار نشر الثقافة .1950 ،ص55.
31 من هؤلاء دي بور الذي يرى أن المفكرين الأوائل في الإسلام كانوا"مؤمنين بسمو العلم اليوناني، حتى لم يكن يخالط نفوسهم ريب في أنه قد بلغ أعلى درجات اليقين..وظلت الفلسفة الإسلامية على الدوام فلسفة.. عمادها الاقتباس مما ترحم من كتب الإغريق.. فلانجد في عالم الفكر خطوات جديدة تستحق أن نسجلها له،دي بور ،ت .ج ،تاريخ الفلسفة في الإسلام .نقله إلى العربية عبدالهادي أبوريدة ،تونس:الدار التونسية ،1981،ص6970 ينضح هذا الكلام بالتجني على العقل الإسلامي،فما كان المسلمون حسب ما اطلعت عليه ينظرون إلى الفلسفة اليونانية هذه النظرة التقديسية،ولا أدل على ذلك من ردود الفكر الإسلامي على ماجاء به أرسطو، ويكفي للتدليل على ذلك ذكر بعض النماذج.
1 الشافعي «ت:204» :قام الشافعي ب " مهاجمة المنطق الأرساطاليسي" مهاجمة شديدة تصل به إلى حد التحريم" النشار،علي سامي . مناهج البحث عند مفكري الإسلام،بيروت،دار النهضة العربية.1984 ،ص 86.
2 النظام «ت: 231»: بات ليلة عند جعفر بن يحيى البرمكي " فتحاورا في خبر الأوائل ،وذكرا أرسطاطاليس،فقال«النظام»: قد نقضت عليه كتابه؛فقال له جعفر:كيف وأنت لاتحسن أن تقرأه؟قال أيما أحب إليك أن أقرأه من أوله إلى آخره، أم من آخره إلى أوله؟ثم اندفع يذكر شيئاً فشيئاً،وينقض عليه فتعجب منه جعفر" الأسد آبادي،القاضي عبدالجبار بن أحمد الهمداني ،فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ،تحقيق عبدالكريم عثمان،القاهرة: مكتبة وهبة ،1996م ،ص264265.
وقد ألف كثير من علماء المسلمين كتباً ردوا بها على أرسطو طاليس" كما أن له كتاباً يسمى "مقالات الفلاسفة" و"الرد على الفلاسفة"و"الرد على أهل المنطق" انظر الخطاف ،حسن ."الصفات الإلهية عند الأشعري "رسالة بحث للحصول على شهادة الدراسات المعمقة في أصول الدين،المعهد الأعلى لأصول الدين جامعة الزيتونة، تونس .ص1718.
ورد الأشعري على الفلاسفة وعلى المنطق يدل على أن للمتكلمين موقفاً من المنطق الأرسطي ،وليس هذا خاصاً بالأشعري ،فمن المتأخرين نجد ابن تيمية «ت:728» الذي ألف كتاباً كاملاً في نقض المنطق اليوناني.
بل إن الفاحص المتأمل يجد أن الفلسفة اليونانية لم تعط للعلم مضمونه الحقيقي،بما هو علم قابل للتطور والاستمرار،حيث أكدت أن العلم الذي وصلت إليه لايمكن تجاوزه،وأدى ذلك إلى تحجر مفهوم العلم،إذ أصبح مفهوم العلم مقصوراً على تعلم وتعليم ماجاء به أفلاطون وأرسطو،وبذلك يتوقف الإبداع،ويحل محله الاجترار،انظر: المرزوقي ،أبو يعرب ،منزلة الكلي في الفلسفة العربية،تونس: جامعة تونس ،1994م ص140.،خلاصة ماتقدم أن الفلسفة الأرسطية ليست بالشكل الذي صوره دي بور.
32 الشافعي،حسن محمود . المدخل إلى دراسة علم الكلام،ط2 ،القاهرة : مكتبة وهبة ،.1991 ،ص173174.
33 قارن بين أركان القياس التي ذكرتها سابقاً وبين أركانها عند الأصوليين، وانظر كنموذج للقياس عند الأصوليين: السبكي، تقي الدين أبو الحسن، الإبهاج في شرح المنهاج، تحقيق جماعة من العلماء، بيروت: دار الكتب العلمية، 1984، ج3، ص37، الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد المستصفى من علم الأصول، تحقيق محمد عبدالسلام عبدالشافي، بيروت: دار الكتب العلمية، 1413ه، ص280.
34 المصدر السابق.
35 أحمد، عطا الله مختار محمود، مناهج الاستدلال لدى المتكلمين والفلاسفة المسلمين مصدر سابق، ص278.
36 أبو سعدة، مهدي حسن، الاتجاه العقلي في مشكلة المعرفة عند المعتزلة، القاهرة: دار الفكر العربي، 1993، ص 106 110.
37 لايفهم من أن هذا المدارس الكلامية الأخرى كأهل السنة مثلاً لم تتأثر بهذا، وإنما جاء ذكر المعتزلة سيرا مع منهج البحث.
38 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص182.
39 الشيرازي، اللمع، مصدر سابق ص104.
40 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار، شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص 151 152.
41 انظر في هذه الصفات: الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار، المغني، مصدر سابق، ج5، ص219 022 240 242، وانظر الأسد آبادي القاضي عبدالجبار المجموع في المحيط بالتكليف، مصدر سابق، ص113 115، 121، 131 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص157 158، 161، 168، 203.
42 ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد، شرح العقيدة الأصفهانية، القاهرة: دار الكتب الحديثة 1960، ص73.
43 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار، شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص228.
44 ابن تيمية، أحمد درء تعارض العقل والنقل، مصدر سابق، ج1، ص97.
45 ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد كتاب الصفدية تحقيق محمد رشاد سالم، ط2 بيروت: مؤسسة الريان، 1406، ج2،ص36.
46 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار، المجموع في المحيط بالتكليف، مصدر سابق، ص208 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص 248 249.
47 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار المغني مصدر سابق ج4، ص140.
48 الزمخشري، أبو القاسم جار الله تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل بيروت: دار الكتب العلمية، 1995، ج 2، ص52، عند تفسيره لقوله تعالى (لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) «103» «الأنعام: 103».
49 الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد الاقتصاد في الاعتقاد، تحقيق موفق فوزي الجبر، دمشق: دار الحكمة، 1994، ص73.
50 للتوسع في هذا الموضوع، انظر: الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار المغني، مصدر سابق، ج 4 في الاعتراض على من يقول بالرؤية، ومحاولة الاستدلال على عدم حصولها بالعقل والنقل.
51 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص268.
52 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار المغني، مصدر سابق، ج4، ص230.س.
53 القاضي عبدالجبار، تنزيه القرآن عن المطاعن: سورة القيامة، ط، الشركة الشرقية للنشر والتوزيع، دار النهضة الحديثة، بيروت ص: 486.
54 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار، شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق ص666 واستدلوا على تخليده بالعقل والنقل، انظر: الأسد آبادي القاضي عبدالجبار، شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص656 665 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، مصدر سابق، ص209 210 الجشمي، الحاكم.
تحكيم العقول في تصحيح الأصول، مصدر سابق، ص220 222
ولما شعر المعتزلة بخطورة النظرة الفارسية،قاموا بالرد عليهم،وبيان تهافت مذهبهم ،وممن رد على المجوس، واصل بن عطاء «ت:131»2 مؤسس المعتزلة ،وابراهيم النظام «ت:231» الذي رد عليهم رداً قوياً،وأبطل كثيراً من أفكارهم،3 والقاضي عبدالجبار«ت:415»4 وكذا رد المعتزلة على اليهود والنصارى ،لأن دورهم كان خطراً؛ فهم في رأي الجاحظ نقلوا كتب المجوس،كما أنهم تتبعوا الأحاديث الضعيفة والآيات المتشابهة وبثوها للعوام،يضاف إلى ذلك معرفتهم بأفكار الملحدين.5
أما فيما يتصل بالجانب الداخلي فقد كانت لهم مواقف معارضة للحنابلة والأشعرية ،وكم من يقرأ كتب القاضي عبدالجبار الموجودة بين أيدينا يدرك هذه الحقيقة،هذا العقل الذي عُرف به المعتزلة،استند على مكونات يقوم عليها،من هنا جاءت هذه الدراسة لتكشف عن هذه المكونات،وقد بان لي من خلال الفحص أن أهم المكونات التي ساهمت في تشكيل العقل الاعتزالي،هو قياس الغائب على الشاهد.
وهو ماجاءت هذه الدراسة لتكشف عنه وعن مدى قيمته العلمية.
وقد تناولت كثير من الدراسات هذا الجانب،ولكن بشكل عَرَضي 6،ولم أطلع على دراسة معمقة متخصصة حول قياس الغائب على الشاهد سوى دراسة قام بها عبدالعزيز عبداللطيف المرشدي،وقد نال بها درجة الدكتوراه في جامعة الأزهر،كلية أصول الدين ،قسم العقيدة والفلسفة،وكانت تحت عنوان "قياس الغائب على الشاهد في الفكر الإسلامي" ومما امتازت به هذه الدراسة القيمة،أنها أعطت فكرة شمولية عن قياس الغائب على الشاهد في الفكر الإسلامي.، ولكنها في تصوري خلت من أمرين أساسيين:
فهي:لم تبرز قياس الغائب الشاهد على أنه من أهم مكونات العقل عند المتكلمين،ولاسيما المعتزلة،وهذا ماقامت به هذه الدراسة.
كما أنها لم تظهر بيان مدى القيمة العلمية لهذا القياس،وهذا ما حاول هذا البحث إبرازه،بالإضافة إلى بيان أثر قياس الغائب على الشاهد في السنة النبوية رداً أو تأويلاً،وهذه من أهم الإضافات التي جاءت بها هذه الدراسة.
وقد استخدم الباحث في دراسته المنهج النقدي في معظم البحث خاصة عند الحديث عن مدى القيمة العلمية للقياس،والمنهج البنيوي الذي يقوم على اعتبار النص أو الفكرة، بنية قائمة بذاتها لها،بمعزل عن كل الظروف المحيطة بالنص،بما فيها تجاوز قائل النص؛أي اعتبار النص أو الفكرة حدثاً آنياً،وقد برز هذا المنهج في النصوص الاعتزالية التي يراد نقدها.7والمنهج المقارن الذي استخدم بقصد تجلية موقف المعتزلة ؛ إذ غالباً ما تبرز وجهة النظر وتتضح من خلال تبيان الموافق والمخالف،وهذا هو المقصد من مقارنة المعتزلة بغيرهم كالأشعرية مثلاً، غير أن هذه المقارنة لاتصل إلى حد ذكر الأدلة،والدخول في التفاصيل الجزئية.
أولاً: تعريف قياس الغائب على الشاهد وأركانه
عرَّف قياس الغائب على الشاهد بأنه: إذا وجب "الحكم والوصف للشيء في الشاهد ،لعلة ما ،فيجب القضاء على أن من وصف بتلك الصفة في الغائب،فحكمة في أنه مستحق لتلك العلة، حكم مستحقها في الشاهد."8
ويمكن أن نمثل لهذا القياس بإثبات صفة العلم لله عند المعتزلة من خلال الأفعال الإنسانية المحكمة/المتقنة؛فالأعمال المتقنة التي يقوم بها المرء،تدل على علمه،ومثل ذلك مخلوقات الله فإنها تدل على علمه،كما دلت أفعالنا على علمنا9،هذا هو تعريف قياس الغائب على الشاهد ،فهل هناك فرق بين هذا القياس والقياس الأصولي المسمى قياس التمثيل؟
عند النظر في الجزئيات الفقهية المستندة إلى القياس الأصولي والجزئيات الكلامية المستندة إلى قياس الغائب على الشاهد لانجد فرقاً بينهما،وفي هذا السياق يقول الغزالي:" التمثيل «أي قياس التمثيل» وهو الذي يسميه الفقهاء قياساً، ويسميه المتكلمون رد الغائب إلى الشاهد،ومعناه أن يوجد حكم في جزئي معين واحد فينقل حكمه إلى جزئي آخر يشابهه بوجه مّا"10 فمن الواضح أن الغزالي لم يفرق بينهما،فالتعريف الذي ذكره يصلح للقياس بالمعنى الفقهي والكلامي،وهذا المعنى نجده عند الشيرازي؛ حيث يعرف القياس بقوله:"اعلم أن القياس حملُ فرع على أصل في بعض أحكامه بمعنى يجمع بينهما"11وهذا التعريف يتفق مع تعريف الغزالي، مع ملاحظة أن الشيرازي وضع تحت هذا التعريف القياس الفقهي وقياس الغائب على الشاهد.
وسيتضح عدم الفرق بينهما من خلال البحث في أركان القياس الأربعة،وإذا كان ثمة من فرق فهو في مجال استخدام كل منهما.
إذاً ،ليس هناك فرق بين قياس الغائب على الشاهد وقياس التمثيل،ولكن هل هناك فرق بين قياس التمثيل الفقهي وقياس الشمول المنطقي؟التعريف السابق الذي ذكره الغزالي والشيرازي ينطبق على قياس التمثيل،أما قياس الشمول فهو قول "مؤلف من قضايا متى حصل التسليم بها لزم عنه لذاته قول آخر"12 ومثلا ذلك: كل الناس ميتون، وزيد إنسان ،فزيد ميت ،ويمكن القول أيضاً زيد إنسان وكل إنسان ميت فزيد ميت ،وتسمى القضية الأولى :المقدمة الكبرى،أو الحد الأكبر، والثانية: الصغرى أو الحد الأوسط باعتباره متكرراً بين الأوسط والأكبر،والثالثة: النتيجة .13
وقد ذكر ابن تيمية وجه العلاقة بين قياس الشمول وقياس التمثيل،وخرج بنتيجة مفادها أن لا فرق بينهما من حيث الحقيقة،يقول ابن تيمية:" والذي عليه جمهور الناس وهو الصواب أن كليهما قياس حقيقة..فإن قياس التمثيل مضمونه تعلق الحكم بالوصف المشترك ،الذي هو علة الحكم،أو دليل العلة أو هو ملزوم للحكم،وهذاالمشترك هو الحد الأوسط في قياس الشمول ،فإذا قال القايس نبيذ الحنطة المسكر حرامّ قياساً على نبيذ العنب،لأنه شرابٌ مُسكر ،فكان حراماً قياساً عليه، وبين أن السكر هو مناط التحريم فيجب تعلق التحريم بكل مُسكر كان هذا قياس تمثيل وهو بمنزلة أن يقول هذا شراب مسكر «مقدمة صغرى» وكل مسكر حرام «مقدمة كبرى» فالمسكر الذي جعله في هذا القياس حداً أوسط،هو الذي جعله في ذلك القياس الجامع المشترك الذي هو مناط الحكم «أي العلة» فلا فرق بينهما عند التحقيق في المعنى،بل هما متلازمان ،وإنما يتفاوتاون في ترتيب المعاني،والتعبير عنها."14
فمن الواضح أن لافرق بينهما من حيث المضمون،ويبقى الفرق من حيث التعبير وشكل كل منهما،وأهم فرق بينهما من هذه الجهة أن قياس الشمول أكثر اعتماداً على الشكل من قياس التمثيل.15.
والناظر إلى التعريف السابق والمثال الذي ذكرناه لقياس الغائب على الشاهد يجد أنه عملية ذهنية،يقوم على أركان أربعة،وأي نقص في ركن أو خلل فيه يؤدي إلى سقوط هذا القياس،وهذه الأركان هي :الغائب/المقيس ،الشاهد/المقيس عليه،والعلة الجامعة بين المقيس والمقيس عليه،والحكم.
ويكمن أن نطبق المثال السابق على الأركان الأربعة:
فالشاهد: هو المقيس عليه،وهو الأصل الذي يُنقل الحكم منه إلى الغائب/المقيس،وذلك بعد معرفة الخصائص المشتركة بينهما من قبل القائس،والشاهد في المثال السابق هو الإنسان،واعتبر الإنسان أصلاً في هذا القياس ،لأنه حامل للحكم،بينما الغائب مفتقر إلى الحكم ولابد من البيان أن الشاهد ليس هو الإنسان دائماً،كما أن الشاهد ليس مقصوراً على مانشاهده،فهو أعلم مما يقع تحت المشاهدة/الرؤية،فكل ماهو معلوم لن يمكن أن نسميه شاهداً16 سواء أكان خاضعاً لحاسة من حواسّنا الخمس،أم كان معلوماً لنا عن طريق الاكتساب كالعلم المستفاد من التجربة،أو عن طريق الاضطرار؛ كعلم الإنسان بما في نفسه.
والغائب:هو المقيس الذي يُحمل على المقيس عليه/الأصل ،ومن ثم يأخذ حكمه،فهو بمثابة الفرع،وكونه فرعاً ليس تقليلاً من شأنه،كما أن الشاهد كونه أصلاً ليس رفعة من مكانته،وإنما اعتبر فرعاً باعتبار خلوه من الحكم ،"وليس المراد بالغيبة هاهنا البعد والحجاب،وإنما المراد غيبة العلم"17 ومؤدى هذا أن الغائب ليس هو الغائب عن حواسنا،فهو أعلم من ذلك،فهو كل ماغاب عنا معرفته،فقد يكون أمام أبصارنا ولكن نجهل علله والقوانين المتحكمة فيه،فهو غائب بهذا المعنى،وبذلك يكون هناك تقابل بين الشاهد والغائب،فما كان منضوياً تحت أحدهما كان خارجاً عن الآخر.
ولكن لابد من البيان أن الشاهد وإن كان هو أعم من الإنسان،فقد احتل الإنسان الصدارة في استدلالات المتكلمين؛ حيث كانوا ينطلقون منه باعتباره حاملاً للوصف،.كما أن الغائب وإن كان عاماً في كل ماغاب عنا إلا أن المقصود به في أغلب استدلالات المتكلمين هو الله.
غير أن السؤال الذي يرد هنا،هل اختيار كلمة الشاهد كأصل والغائب كفرع جاء بشكل عشوائي أم أنه جاء بشكل مدروس ومخطط له؟ يجيب أبوهاشم الجبائي «ت:323» عن ذلك""أنا نسمي المعلوم شاهداً، وماليس بمعلوم غائباً اصطلاحاً مِنّا".18 وليس ببعيد أن يكون هذا الاصطلاح مستعاراً من القرآن الكريم،حيث نجد التساوق بين الغيب والشهادة في آيات كثيرة كقوله تعالي:«وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون» «التوبة :105» مع ملاحظة بعض الفروق بين الاستخدامين،حيث نجد الوجود كله بمافي ذلك الله في ثنائية الغائب والشاهد عند المتكلمين،،هذا على خلاف الاستخدام القرآني ،حيث يتعالى الله عن هذه الثنائية التي ينضوي تحتها المخلوق فقط، وهذه الفروق لاتُعد مانعاً من استعارة هذه التسمية من القرآن؛لأن الاستعارة وقعت على التسمية دون المحتوى؛ وإلا لماذا وقع الاختيار على تسمية المعلوم عند المعتزلة بالشاهد،ولم يقع الاختيار على تسميته بالمعلوم أو بالحاضر أو بالمدرك،ولماذا وقع تسمية غير المعلوم
بالغائب ولم تقع التسمية بغير المعلوم أو بما ليس بمعلوم أو بما ليس بحاضر،أو بما ليس بمدرك،مع العلم أن التسمية بالمعلوم وبما ليس بمعلوم هي الأقرب للصواب؛من حيث أن التسمية بالمعلوم أشمل من التسمية بالشاهد ،والتسمية بما ليس بمعلوم أشمل من التسمية بالغائب.19
والعلة الجامعة:هي الرابطة بين الشاهد «المقيس» عليه والغائب «المقيس» ،وهذه العلة:"هي المعنى الذي يقتضي الحكم"20 وهي في المثال الذي ذكرناه عند تعريفنا للقياس الإتقان والإحكام الموجود في صنعة العالم الذي هو شاهد ،وهذا الإتقان والإحكام هو الذي جلب الوصف «الحكم» للإنسان بأنه عالم ،فالعالم هو الوصف والحكم الذي لحق بالإنسان استناداً إلى العلة، فوجودها وجود
لهذا الوصف، وفقدها فقد له،ومن ثم يتعدى هذا الحكم الوصف بالعالم من الشاهد «المقيس» عليه إلى الغائب «المقيس» والغائب هنا هو الله،فيوصف الله عندها بأنه عالم.
وإلحاق الحكم بالغائب من خلال الشاهد ليس مقصوراً على العلة ،بل هناك أربعة جوامع تجمع بين الغائب والشاهد عند المتكلمين،يقول الغزالي «ت :505» :"وجه الجمع الصحيح بين الغائب والشاهد أربع:جمع لعلة،كقولهم: العلم علة كون الذات عالمة ،فليكن كذلك في الغائب،وجمع بالحقيقة ،كقولهم : حقيقة كونه عالماً قيام العلم به ،والجمع بالشرط،كقولهم:الحياة شرط العلم شاهداً فكذا غائباً،والجمع بالدليل العقلي، كقولهم:رسم الخط المنظوم وإتقانه دليل على علم المتقن شاهداً فكذا غائباً .21إذاً ،هناك أربعة جوامع،وقد استخدمت المعتزلة هذه الجوامع،ولكن احتل الجامع بالدليل الصدارة عند المعتزلة فيما يتصل بمسائل التوحيد،واحتل الجامع بالعلة الصدارة فيما يتصل بمسائل العدل الإلهي،يقول القاضي عنهما:"فالأول «الجامع بالدليل» هو كالدلاة على صفاته جل وعز؛ لأنه إنم يجب كونه قادراً لثبوت الطريق فيه ،وهو صحة الفعل،وهذه حال كثير من صفاته تعالى،وأكثر مسائل التوحيد تجري على هذا الحد،والثاني هو الاشتراك في العلة،كنحو ما نقوله في حاجة المحدث منا إلينا لحدوثه،22 ثم يقاس الغائب عليه فيجعل أفعاله محتاجة إليه لحدوثها،وكثير من مسائل العدل يبنى على ذلك"23
وقد أثبت المعتزلة كل الصفات الإلهية للّه:أي كونه قادراً عالماً مريداً سميعاً بصيراً استناداً إلى الجمع بالدليل وذلك من خلال قياس الغائب على الشاهد،24 واستناداً إلى الجمع بالعلة أثبت المعتزلة العدل الإلهي ،ونكتفي للتدليل على ذلك بمسألة التحسين والتقبيح العقليين عند المعتزلة،وقد جاءا انطلاقاً من الشاهد وألحق المعتزلة به الغائب، فعندهم أن الله لايفعل القبيح 25لأنه " عالم بقبح القبيح ومستغن عنه... ومن كان هذه حاله لايختار القبيح بوجه من الوجوه...«لأنّا» نعلم ضرورة في الشاهد أن أحدنا إذا كان عالماً بقبح القبيح...فإنه لايختار القبيح البتة"26
وتفرع عن مسألة التحسين والتقبيح فروع كثيرة،كلها مبنية على قياس الغائب على الشاهد،من ذلك وجوب الثواب والعقاب؛ وترتب على هذا نفي خروج العصاة من النار بشفاعة أو بغيرها ،ومما تفرع عن التحسين والتقبيح القول بوجوب مراعاة الله للصلاح والأصلح فيما يخص عباده ،يقول الغزالي «ت:505» عن دليل المعتزلة في هذه المسألة:" وإذا طولبوا بتحقيقه «بتحقيق الدليل» لم يرجعوا إلى شيء،إلا أنه رأيٌ استحسنوه بعقولهم من مقايسة الخالق على الخلق ،وتشبيه حكمته بحكمتهم "27 وكما تجد الجمع بالعلة دليلا على عدم فعل الله للقبيح، فكذلك تجد هذا الجمع دليلاً على عدم إرادة الله للمعاصي،وعلى عدم خلق الله لأفعال العباد،وعلى أن الله لايليق به أن يوقعنا في الآلام من غير تعويض عنها.28وبذلك يجتمع كما قلنا التأسيس النظري والتطبيق العملي في مدى أهمية قياس الغائب على الشاهد في مسائل العدل الإلهي عند المعتزلة اعتماداً على الجمع بالعلة.
مع ملاحظة أن الفرق بين الجمع بالدليل والجمع بالعلة هو أن الحكم على الشاهد والغائب،بأنه قادر جاء انطلاقاً من الدليل في كل منهما؛فكما أن صحة الفعل دليل في الشاهد على أنه قادر،فكذلك صحة الفعل نفسها دليل على أن الغائب قادر،ولا يوجد دليل في الشاهد والغائب غير هذا الدليل،بينما الحكم على الشاهد والغائب بأنه لايفعل القبيح،لم يمكن انطلاقاً من العلة في كل منهما،وإنما جاء انطلاقاً من العلة في الشاهد ثم ألحقنا بها الغائب ؛وهذا يعني أن عدم اختيار الشاهد للقبيح معلل بعلمه وغناه دون علة أخرى،ولابد من التدليل على أن هذه هي العلة دون سواها،ثم لابد أن نلحق الغائب بالشاهد استناداً إلى هذه العلة دون سواها، أي أن العلة الموجودة في الشاهد هي التي سمحت لنا بإطلاق الحكم على الغائب،وهذا بخلاف الجمع بالدليل ؛ إذ الدليل موجود في كليهما29.
ثانياً : مصدر القياس
أما عن مصدر هذا القياس فهناك من يرى أن أصله يوناني،ومن هؤلاء من يبالغ إلى حد أنه يجعل من العقل الإسلامي عقلاً غير قادر على الإنتاج والخلق والإبداع،وإنما ديدنه الاتباع،وأغلب هؤلاء في تصوري تنقصهم المعرفة بالعقل الإسلامي وإبداعاته وردوده على الفكر اليوناني،والعقائد المخالفة 30،وهذا التوجه يتفق مع نظرة بعض المستشرقين الذين يحاولون تقويم الفكر الإسلامي ،واستبعاد مقدرته على الإبداع،وبالتالي فالفكر الفلسفي الإسلامي ليس إلا وليد الفكر اليوناني.31
والذي أراه أن هذا القياس انتقل من أصول الفقه الذي جاء به الشافعي «ت:204»إلى علم الكلام،وقد صرح "المتكلمون أنفسهم بأنهم قد استعاروا هذه الصيغة «قياس الغائب على الشاهد» من صيغ الاستدلال من إخوانهم الفقهاء ،ولكنهم أدخلوا عليها تحويراً بدا لهم أن يقربها إلى طبيعة البحوث الكلامية"32 والذي يدل على أن هذا المنهج مستعار من قبل الأصوليين هو وحدة الأركان بين القياس الأصولي والقياس الكلامي، وإن ظهر خلاف فهو ناتج عن الموضوع الذي يبحث فيه العلمان:علم الكلام وعلم الأصول «33» ولكن إذا كان هذا المنهج يرجع في أصله إلى الأصوليين، وكان الشافعي المؤسس الرسمي للأصول في كتابه «الرسالة» لكن الا يمكن أن يكون الشافعي قد استعار هذا المنهج من الفكر اليوناني الأرسطي؟ يجاب عن هذا السؤال بأن الناظر في «أسلوب الرسالة وطريقة البحث فيها لايشعر بوجود أية علاقة بينها وبين أي دراسة أجنبية عن التفكير العربي واللغة العربية» «34».
هذا من حيث نفي تأثر الشافعي بالمنطق الأرسطي بشكل عام، أما عن العلاقة بين قياس الغائب على الشاهد في الفكر الإسلامي، والتمثيل الأرسطي، فإن هذا الأخير لم يعرف عند المسلمين قبل بشر بن يونس بن حتى «ت: 328» الذي ترجم كتاب البرهان لأرسطو ، وهذا الكتاب هو الذي يحتوي على التمثيل الأرسطي، في حين استخدم المسلمون هذا القياس قبل ذلك، هذا من الجانب التاريخي، أما من الجانب المضموني فهناك فرق كبير بين التمثيل الأرسطي وقياس الغائب على الشاهد، ولعل أبرز نقاط الخلاف أن التمثيل الأرسطي لايولي اهتماماً بالعلة الجامعة بين المقيس والمقيس عليه، بل يكتفي بمطلق التمثيل «التشبيه»، في حين لاغنى عن العلة في قياس الغائب على الشاهد عند علماء المسلمين باعتبارها الحجر الأساس في عملية القياس، ولهذا بينوا أن عدم الاشتراك في العلة الجامعة ينسف هذا القياس ويلزم عنه نتائج باطلة «35» إذاً، قياس الغائب على الشاهد ذو نشأة إسلامية، وليس في ذلك انتقاص للفكر اليوناني، حتى لو كان هناك تأثير فهو لايتجاوز الاشتراك في الألفاظ، أما من حيث المضامين والأركان فلا «36».
ثالثاً: إسهام القياس في إثبات الصفات الإلهية والعدل الإلهي عند المعتزلة
كوَّن هذا القياس جانباً هاماً من العقل الاعتزالي «37» وهذا يظهر من خلال عرض أدلتهم أو نقد أدلة خصومهم، فهم عندما يفعلون ذلك يقروّن أنهم ينطلقون من العقل، وهم في حقيقة الأمر ينطلقون من قياس الغائب على الشاهد، ونكتفي بذكر إسهام هذا القياس في إثبات الصفات الإلهية عند المعتزلة.
فالناظر في الصفات الإلهية التي أثبتها المعتزلة لله كصفة الوجود والقدرة والعلم والحياة، «38» يرى أن دليلها العقلي هو قياس الغائب على الشاهد، وذلك استناداً إلى العلة الجامعة بين الشاهد/المقيس عليه والغائب/المقيس، وهذه العلة «هي المعنى الذي يقتضي الحكم» «39».
فقد ذكرنا عند الحديث عن العلة أن هناك أربعة جوامع تجمع بين الغائب والشاهد، ومن هذه الجوامع الجمع بالدليل، وبناءً على هذا الجامع أثبت المعتزلة كل الصفات الإلهية لله أي كونه قادراً عالماً مريداً سميعاً بصيراً، وذلك من خلال قياس الغائب على الشاهد، ونكتفي بذكر إثبات كون الله قادراً عند المعتزلة استناداً إلى الجمع بالدليل.
فالله عندهم قادر بذاته، لأنه «قد صح منه الفعل، وصحة الفعل تدل على كونه قادراً..أما الذي يدل على أنه تعالى قد صح منه الفعل، فهو أنه قد وقع منه الفعل ، وهو أجسام العالم..ولو لم يصح لم يقع..وأما الذي يدل على أن صحة الفعل دلالة على كونه قادراً، فهو أنا نرى في الشاهد جملتين إحداهما صح منه الفعل، كالواحد منا، والآخر تعذر عليه الفعل كالمريض، فمن صح منه الفعل فارق من تعذر عليه بأمر من الأمور، وليس ذلك إلا صفة ترجع إلى الجملة، وهي كونه قادراً، وهذا الحكم ثابت في الحكيم تعالى، فيجب أن يكون قادراً، لأن طرق الأدلة لاتختلف شاهداً وغائباً «40» وكما تجد الجمع بالدليل دليلاً على إثبات كون الله قادراً انطلاقاً من الشاهد، فكذلك تجد الجمع بالدليل دليلاً على إثبات كون الله عالماً وسميعاً وبصيراً ومريداً انطلاقاً من الشاهد «41» وبذلك يجتمع التأسيس النظري والتطبيق العملي في مدى أهمية قياس الغائب على الشاهد في مسائل التوحيد عند المعتزلة اعتماداً على الجمع بالدليل.
وهنا يجدر التنبيه إلى أمر، وهو أن العمل بقياس الغائب على الشاهد، ليس موطن اتفاق من قبل العلماء، فكثير منهم قد عارض هذا القياس لأنه وراء نفي وتأويل بعض الصفات الإلهية، والذين عارضوا هذا القياس استبدلوا عوضاً عنه قياس الأولى، وخير من وضح هذا الأمر ابن تيمية رحمه الله، حيث يقول:« وهو «أي قياس الأولى» أن يكون الحكم المطلوب، أولى بالثبوت من الصورة المذكورة في الدليل الدال عليه، وهذا النمط هو الذي كان السلف والأئمة كالإمام أحمد وغيره من السلف يسلكونه من القياس العقلي في أمر الربوبية، وهو الذي جاء به القرآن، وذلك أن الله سبحانه لايجوز أن يدخل هو وغيره تحت قياس الشمول، الذي تستوي أفراده ولاتحت قياس التمثيل الذي يستوي فيه حكم الأصل والفرع، فإن الله تعالى ليس كمثله شيء، لا في نفسه المذكورة بأسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله ، ولكن يسلك في شأنه قياس الأولى كما قال «ولله المثل الأعلى» ، فإنه من المعلوم أن كل كمال ونعت ممدوح لنفسه، لانقص فيه، يكون لبعض الموجودات المخلوقة المحدثة، فالرب الخالق الصمد القيوم القديم الواجب الوجود بنفسه هو أولى به ، وكل نقص وعيب يجب أن ينزه عنه، بعض المخلوقات المحدثة الممكنة، فالرب الخالق.. أولى بأن ينزه عنه» «42».
يتصح مماسبق أن عدم الأخذ بهذا القياس من قبل الإمام أحمد وغيره أنه يقود إلى تشبيه الله بمخلوقاته، حيث يؤدي إلى إثبات الصفات لله كصفة العلم وغيرها انطلاقاً من المخلوق، وكذا نفي بعض الأشياء عن الله انطلاقاً من المخلوق، وهذا ماسيتضح معنا في نفي المعتزلة لرؤية الله يوم القيامة، والسبب الرئيس وراء المعارضة أنه يقود إلى نفي الصفات الخبرية أو تأويلها، فالقاضي عبدالجبار المعتزلي حمل اليد في قوله تعالى:« بل يداه مبسوطتان» المائدة:64» على معنى النعمة، وحمل «اليمين» في قوله تعالى:« والسموات مطويات بيمينه» على معنى القوة «43» وقد وضع ذلك تحت مبحث نفي الجسم عن الله، وتصور الجسم لايكون إلا من خلال قياس الغائب على الشاهد، وفي هذا السياق يقول ابن تيمية: «وهم إنما ينفون ماينفونه من الصفات لظنهم أنها تستلزم التجسيم» «44».
ونفي هذه الصفات عند المعترضين على هذا القياس هو تعطيل لصفات الله، وخير من تبنى هذا الاتجاه ودافع عنه ابن تيمية، فقد ناقش من نفى الصفات أو أوّلها في أكثر من موضع في كتبه، مبيناً أن من استخدم هذا المنهج، يستخدمه في مواطن ويتركه في مواطن أخرى، وهذا خلل في المنهج، فإذا كان نفي الصفات الخبرية جاء خوفاً من الوقوع في التجسيم، فإن الصفات الذاتية من السمع والبصر والعلم تقود إلى التجسيم، يقول ابن تيمية:« وقال المثبتون للصفات الشرعية لنفاتها لماذا نفيتم أن الله يرضى ويغضب ويحب ويفرح ونحو ذلك ممانطق به الكتاب والسنة، قالوا لإن هذه الصفات تستلزم التجسيم والتشبيه، فإنا لانعقل الغضب إلا غليان دم القلب لطلب الانتقام أو مايحصل عنه الغليان، وكذلك سائرها، قالوا وكذلك إثبات السمع والبصر والكلام والإرادة ونحو ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم، فإنا لانعقل الإرادة إلا ميل المريد إلى جلب ماينفعه ودفع مايضره أو مايلازم هذا المعنى وإلا فإرادة المراد الذي لاينفع صاحبه ولايضره لايعقل في الشاهد» «45».
إذاً اعتمد المعتزلة على قياس الغائب على الشاهد في إثبات الصفات الإلهية من القدرة والعلم.. وكان هذا القياس وراء تعطيل الصفات بنظر ابن تيمية، وسيتضح أثر هذا القياس أكثر في المبحث الثاني.
رابعاً: أثر القياس في العدول عن السنة النبوية
سنذكر هنا بعض النماذج المتصلة بالسنة النبوية التي تدل على أثر على هذا القياس في عملية العدول عن السنة، سواءً أكان هذا العدول كلياً، ويتمثل ذلك برد الحديث جملة وتفصيلاً، أم جزئياً، ويتجسم ذلك في عملية التأويل، أي إبعاد الدلالة الأصلية وتعويضها بدلالة أخرى، مع ملاحظة أن هذا العدول يرد باسم العقل، وعند التمعن فيه نجده قياس الغائب على الشاهد، وهذه النماذج هي: الرؤية، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المعاصي، والصراط، والميزان، وذبح الموت.
1 قياس الغائب على الشاهد وصلته بالعقل والرؤية: ففيما يتصل بعلاقة هذا القياس بالرؤية، وإطلاق كلمة العقل عليه، يقول القاضي عبدالجبار:« قد دل العقل والسمع على ماقلناه في نفي الرؤية»، ثم شرع بتفصيل الدليل الذي جاء: «من جهة العقل..«وهو» أن من شأن أحدنا أن لايرى إلا إذا كانت له حاسة صحيحة، ولايكفي ذلك دون أن يكون المرئي مقابلاً لحاسته، إن كان إنما يراه بلا واسطة، أو يقابل ماقابل حاسته إن كان يرى بواسطة هي المرآة.. فإذا ثبتت هذه الجملة، وكان من حق الرائي منا ألا يرى إلا ماهو مقابل لنا، وكانت هذه القضية «قضية المقابلة» فيه تعالى ممتنعة، فيجب أن تمتنع رؤيته» «46».
ماقاله القاضي هنا يكشف عن عملية القياس بتفاصيلها، كما لابد من ملاحظة أن هذا القياس جزء من مكونات العقل الاعتزالي، وجزئيات هذا القياس الذي نلمحه في نص القاضي واضحة، ويمكن إبراز هذا القياس وتوضيحه من خلال تطبيقه على دليل منع الرؤية الذي ذكره القاضي، فالمقيس عليه هو المرئيات الموجودة التي يراها الإنسان، والمقيس هو رؤيتنا لله، والعلة الجامعة هي أن مانراه ينبغي أن يخضع لشروط معينة هي: كون حاسة البصر صحيحة، وكون المرئي في مقابل الرائي أو في حكم المقابل، وهذه الشروط لصحة الرؤية ينبغي في نظر القاضي أن تطبق على الله، وبناءً على ذلك ينبغي أن نراه إذا وجدت هذه الشروط، وهذا هو الحكم ورؤيتنا له تعالى تجعل منه جسماً، والجسمية ممتنعة في حقه، وهذا معنى قوله السابق:« وكانت هذه القضية فيه تعالى ممتنعة» وإذا كانت الجسمية في حقه ممتنعة فيجب أن تمتنع رؤيته، ولا ننسى أن القائس هنا هو القاضي عبدالجبار، وبذلك تكتمل هذه الأركان.
إذاً، القول برؤية الله في نظر المعتزلة يؤدي لا محالة إلى أن يكون الله جسماً على غرار المرئيات، وهذه الخشية الرؤية تسوق إلى التجسيم جاءت صريحة في قول القاضي: «إن الكلام في الرؤية فرع على الكلام في نفي التجسيم» «47» وفي قول الزمخشري «ت: 538» في تعليله لنفي الرؤية بالأبصار:« لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة..كالأجسام «48» إذاً أنكرت المعتزلة الرؤية تنزيهاً لله تعالى حتى لايؤدي ذلك إلى الجسمية، وذلك لأن مانراه لايكون إلا جسماً، فالقول برؤيته تعالى يجعله مماثلاً للمرئيات، وهذا هو عين قياس الغائب على الشاهد وقد ذكر الغزالي «ت:505» دليل المعتزلة السابق ثم قال:« وحاصله يرجع إلى الحكم بأن ماشوهد وعلم ينبغي أن لايعلم غيره إلا على وفقه «49» وهذا هو قياس الغائب على الشاهد «50» هذه الخشية من المعتزلة هي الأساس النظري وراء العدل عن أحاديث الرؤية، فهي في نظرهم لاتتفق مع العقل، ويقصد بالعقل في هذه القضية قياس الغائب على الشاهد، وهذا بين من قول القاضي السابق :« وقد دل العقل والسمع على ماقلناه في نفي الرؤية».
ثم استدل بالعقل على هذا النفي، وكان دليله القياس، مع ملاحظة أن العقل في النقل السابق مقدم في الاستدلال على النقل، ومفاد هذا أن العقل، أي قياس الغائب على الشاهد في المرتبة الأولى وأهمية هذا الترتيب تظهر من خلال العدول عن السمع ليتفق مع العقل، أي قياس الغائب على الشاهد والعدول عن السمع في هذه القضية واضح، يقول القاضي عن حديث من أحاديث الرؤية:« إن هذا الخبر يتضمن..التشبيه لأنا لانرى القمر إلا مدوراً عالياً منوراً ومعلوم أنه لايجوز أن يرى القديم تعالى على هذا الحد، فيجب أن نقطع على أنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم «51» ويقول عن أحاديث الرؤية كلها: إن مارووه من الأخبار كلها يوجب التشبيه «52» فيظهر هنا أن عملية العدول، عن الروايات جاءت خشية أن تسوق الرؤية إلى التشبيه والتجسيم، وليس ذلك إلا قياساً للغائب على الشاهد، أي أن هذا العدول الكلي عن أحاديث الرؤية جاء من تأثير هذا القياس على العقل المعتزلي، حتى أصبح جزءاً منه ولهذا فهم يرفضون الرؤية انطلاقاً من الأدلة العقلية التي في حقيقتها ترجع إلى هذا القياس.
والعدول هنا جاء عن الحديث، وهو أحد شقَّي السمع، ويكتمل هذا العدول بشقيه، عندما نضيف إلى ذلك عدولهم عن دلالة القرآن، يقول القاضي في تفسيره لقوله تعالى:( وجوه يومئذ ناضره إلى ربها ناظرة) «القيامة: 23» إن «النظر إلى الله تعالى لايصح، لأن النظر هو تقليب العين الصحيحة نحو الشيء طلباً لرؤيته، وذلك لايصح إلا في الأجسام، فيجب أن يتأول على مايصح النظر إليه وهو الثواب كقوله تعالى: ( واسأل القرية التي كنا فيها) «يوسف: 82» فإنا تأولناه «أي تأول السؤال وذلك بحمله على أهل القرية» لصحة المسألة منهم «53».
إذاً حمل القاضي آية الرؤية على معنى سؤال القرية ، فلما كانت القرية بذاتها لاتسأل باعتبارها بناءً، كان المعنى أهل القرية، ولما كان الله لاينظر إليه بالأعين كان المعنى ناظرة إلى ثواب ربها، والذي يعنينا من هذا أن الذي دفع إلى التأويل هو الخشية من التجسيم، وفهم النظر على أنه يقود إلى التجسيم استناداً إلى قياس الغائب على الشاهد وهذا الأخير هو العقل، وعلى ضوء العقل أولت آية الرؤية فنخلص من ذلك إلى القول إن السمع/المنقول «القرآن والسنة» لابد أن يؤول ليتفق ودلالة العقل/قياس الغائب على الشاهد.
2 قياس الغائب على الشاهد وصلته بالعقل والشفاعة:
ساهم هذا القياس في العدول عن أحاديث الشفاعة للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين أدركهم الموت قبل أن يتوبوا، وكذا الأحاديث التي فيها خروج العصاة من النار، التي جاءت غير مقترنة بالشفاعة، لأن أحاديث الشفاعة والخروج من النار يفيدان عدم استمرارية العقاب في حق العصاة، حيث ينقلون من التعذيب إلى التنعيم، وهذا يتعارض مع ماتراه المعتزلة من أن العاصي إذا مات وكانت معصيته من الكبائر ولم يتب قبل موته، فإنه فاسق وهو يستحق العقاب المستمر الذي لاانقطاع فيه وهو «يخلد في النار ويعذب فيها أبداً» «54».
والأساس النظري لاستحقاق العاصي العقوبة، وبالتالي الخلود المستمر في النار، هو قياس الغائب على الشاهد وأقوال المعتزلة في هذا السياق كثيرة أقتصر منها على نموذجين: الأول متصل بعدم جواز الشفاعة والثاني: متصل باستمرارية العقوبة أما فيما يخص الأول فيرى المعتزلة أن الشفاعة للعاصي نوع من الإثابة، والعاصي لايستحق الإثابة «وإثابة من لايستحق الثواب قبيح، والله تعالى لايفعل القبيح» «55 لكن ماالدليل على أن إثابة من لايستحق الثواب قبيح؟ يجيب القاضي بالقول: إن الثواب» يستحق على طريقة التعظيم والإجلال، وماهذا سبيله لايحس دون الاستحقاق، ولهذا لايحسن من الواحد منا أن يعظم أجنبياً على الحد الذي يعظم والده» «56» أي أن الأجنبي لايستحق التعظيم كالوالد، فإذا عظم الولد والده والأجنبي على درجة واحدة كان الولد فاعلا للقبيح، لأنه ساوى بين من يستحق التعظيم وهو الوالد وبين من لايستحق التعظيم وهو الأجنبي وكذا الشفاعة للعاصي تجعله مساوياً للطائع، والمساواة بين ذلك قبح، لأن الطائع يستحق الثواب، والعاصي لايستحق الثواب بل يستحق العقاب، وقريب من هذا قوله أيضاًَ: إن الشفاعة للفساق الذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا تتنزل منزلة الشفاعة لمن قتل ولد الغير، وترصد للآخر حتى يقتله، فكما أن ذلك يقبح فكذا هاهنا «57» فيتضح بجلاء أن المعتزلة ينطلقون من الشاهد، ويلحقون به الغائب، ومايقبح في الشاهد يقبح في الغائب.
أما فيما يخص قول المعتزلة باستمرارية العقوبة، وبالتالي عدم الشفاعة والخروج من النار فهو:« أن العقاب كالذم يثبتان في الاستحقاق معاً ويزولان معاً.. حتى لايجوز أن يثبت أحدهما، ويسقط الآخر» «58» ولكن ماالدليل على أن الذم يستحق دائماً، حتى نحكم بالترافق بينه وبين العقاب؟
يرى القاضي أن الجواب عن هذا السؤال «لايقع فيه إشكال فمعلوم أن من لطم والده، وكان مصراً عليه يحسن منه ومن غيره أن يذمه على ذلك الصنيع دائماً «59» فكما يحسن ذم اللاطم في هذا المثال بشكل دائم، فكذا يحسن ذم العاصي الذي ارتكب كبيرة ولم يتب على الدوام، وإذا حسن ذمه حسنت عقوبته، للتلازم بينهما، وإذا حسن هذان، فمن القبح ترك مايحسن، هذا ماأراد القاضي قوله، وأدلته السابقة واضحة،
فيما أحسب في استنادها على القياس، أي ماغاب ينبغي أن يكون على وفق ماعلم وشوهد.
ولابد من التأكيد أنهم عندما يستدلون بهذا القياس على عدم الشفاعة، فهم يستدلون به على أنه دليل عقلي، وهذا مايجعل هذا القياس جزءاً من مكونات العقل الاعتزالي وقد لاحظنا فيما يتصل بالشفاعة أن إثباتها عند المعتزلة يحرم القول باستمراية العقاب، وإذا لم يستمر العقاب كان ذلك نوعاً من التفضل على العصاة، أو إثابتهم «والعقل قد دل على أن لا ثواب لهم» «60» وهذا العقل هو القياس.
3 قياس الغائب على الشاهد وصلته بالعقل والميزان:
ذهب جمهور أهل السنة إلى أن الأعمال التي يفعلها الإنسان توزن يوم القيامة بميزان مادي، واستدلوا على ذلك بظاهر القرآن وبصريح بعض الأحاديث «61» وإلى هذا ذهب جمهور المعتزلة، في حين ذهب بعض المعتزلة وبعض أهل السنة إلى أن الميزان حينما ذكر كان المقصود به إظهار العدل الإلهي، والدليل الذي اعتمد عليه هؤلاء قياس الغائب على الشاهد، وقد بين القاضي دليلهم بقوله: «إن أعمال العباد طاعاتهم ومعاصيهم «وهي» أعراض لايتصور فيها الوزن «62» فالحكم عليها بأنها أعراض وبالتالي لاتوزن، هو إلحاق للغائب بالشاهد، لأن المشاهد هو الوزن للمادة وليس للعرض، فالعرض لايقوم بذاته، ولذا نعجز عن وزن أعمالنا التي هي طاعات أو معاصٍ فلا ميزان للشجاعة والصدق والكذب والقتل..لأنها أعراض قائمة بنا، ومثل ذلك في الآخرة، لاتوزن هذه التصرفات، هذا ماأراد قوله من أنكر وزن الأعمال، وماهو إلا إلحاق للغائب بالشاهد أي مالم يعلم بما علم، وإنما يُثاب أو يعاقب فاعل هذه التصرفات بالنظر إلى آثارها لابوزن ذواتها.
4 قياس الغائب على الشاهد وصلته بالعقل وبتمثل الموت
على هيئة كبش وذبحه:
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الموت يتشكل بهيئة كبش وأن الله يذبحه، وفي ذبحه إشارة إلى خلود أهل الجنة وأهل النار من ذلك مارواه أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:« يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح زاد أبو كريب: فيوقف بين الجنة والنار، واتفقا في باقي الحديث فيقال: ياأهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: ويقال: ياأهل النار هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت قال: فيؤمر به فيذبح قال: ثم يقال: ياأهل الجنة خلود فلا موت، وياأهل النار خلود فلا موت» «63».
فقد رد القاضي عبدالجبار هذا الحديث وأمثاله، استناداً إلى قياس الغائب على الشاهد، ووجه الاعتراض أن الذبح في المشاهد يقع على الأجسام، وليس على الأعراض فالموت عرض لايقوم بذاته، بل بغيره كقيامه بالإنسان والحيوان ومثله مثل الصحة والحياة.. وماكان كذلك لايذبح فيقاس عليه الغائب، يقول القاضي في رده على من قال بذبح الموت:« وتعلقوا فيه «في ذبح الموت» بخبر يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يؤتى يوم القيامة بالموت على صورة كبش..ثم يذبح..ومن بلغ معه الكلام إلى هذا الحد فإن الواجب أن يُضرب عنه» «64».
والإضراب عنه، لأن القول بذبح الموت قول غير معقول في نظر القاضي، وفي هذا السياق يقول القاضي: «ثم العجب من ابن أبي بشر« يقصد الأشعري» أنه رام بصره ذلك «إشارة إلى ذبح الموت» بما يشبه قلة دينه، فقال: عن الموت يموت أيضاً، وأنه يؤتى به يوم القيامة في صورة كبش أملح، وإذا انتهى الكلام إلى هذا الحد، فالكف أولى «65» والكف أولى، لأن هذا الكلام في نظره خارج عن حد المعقول، وخروجه عن المعقول لأن الموت عرض، والعرض لا يذبح لا شاهداً ولاغائباً، يفهم من كلام القاضي أن فيه رداً للأحاديث الواردة في ذبح الموت، والأساس النظري الذي استند إليه في ذلك أن الموت عرض، والعرض لايذبح، ويبدو أن القاضي لم يسع إلى تأويل الذبح، لأن التأويل يجر إلى التعسف في هذا الموضع، والقاضي لايستسيغ ذلك.
وقد عبر الغزالي «ت: 505» عن رأي من أنكر ذبح الموت، وفي هذا يقول:« وإذا سمعت أن الموت، يؤتى به في صورة كبش أملح، علمت أنه مؤول، إذ الموت عرض، لايؤتى به، إذ الإتيان انتقال، ولايجوز على العرض، ولايكون له صورة كصورة كبش أملح، إذ الأعراض لاتنقلب أجساماً، ولايذبح الموت، إذ الذبح فصل الرقبة عن البدن، والموت ماله رقبة ولابدن، فإنه عرض أو عدم عند من يرى أنه عدم الحياة، فإذاً لابد من التأويل «66» ونحن نأخذ من هذا النص معطيين: فالأول: فيه دلالة على أن من اعترض على هذا الحديث ومنهم القاضي عبدالجبار اعترض عليه استناداً إلى قياس الغائب على الشاهد، ذلك لأن الموت أما أنه عرض وهذا هو الراجح من كلام الغزالي ولذا نراه يستند في ضرورة التأويل إليه والعرض لايقوم بغيره، وأما أنه عدم والعدم لا وجود له، وسواءً كان عرضاً أو عدماً فإنه لايذبح وهذا هو المعهود في الحياة الدنيا، وهذا بعينه قياس الغائب على الشاهد.. أما الثاني: فمن أوّل هذا الحديث ومنهم الغزالي استند على الدليل نفسه الذي استند عليه من رد الحديث، وهو القياس، فلما كان الموت عرضاً، والعرض لايقع عليه المجيء والذبح.. كان لابد من تأويله، والتأويل أولى عند الغزالي من رد الحديث، أما منهج المعتزلة فيقتضي رد هذا الحديث لأن المعتزلة « لايسوغون التعسف في تأويل أخبار الآحاد» 67 ولذا لم يقولوا بتأويله، والغزالي الذي ذهب إلى تأويل الحدث لم يستطع الخروج من التعسف، حيث رأى أن تمثل الموت بصورة كبش لايعد وجوده وجوداً ذاتياً حقيقياً، كوجود الشمس والقمر، وإنما وجوده وجود حسي «يختص به الحاس، ولايشاركه غيره، وذلك كما يشاهده النائم» «68».
فيفهم من هذا أن الموت لايتمثل بهيئة كبش، يدرك من قبل أهل الجنة والنار، وإنما هو موجود في أذهانهم لا في الخارج، ولكن كيف أوّل الغزالي الحديث؟ يرى الغزالي أن الموت بالصورة التي صورها الحديث يكون "موجوداً في حسهم لا في الخارج، ويكون سبباً لحصول اليقين باليأس عن الموت بعد ذلك؛ إذ المذبوح ميؤووس منه.«69» هذا التأويل فيه إيغال في التعسف، فلماذا يتصورونه في مخيلتهم على هيئة كبش، وليس على هيئة حيوان آخر؟ ولماذا كان لونه أملح، ولم يكن غير ذلك؟ ثم إن ألفاظ الحديث تأبى هذا التصور، فهناك مجيء وهناك ذبح، وهناك مخاطبة لأهل الجنة، ولأهل النار، وهناك ردود منهما، كل ذلك يبعد أن يكون الأمر مجرد إحساس، ويبدو أن المعتزلة شعرت أن هذا الحديث لايمكن تأويله، فقاموا برده انسجاماً مع منهجهم القائم على عدم التعسف في تأويل الحديث، لأن الحديث "إن لم يمكن تأويله إلا بتعسف لم يجز أن يكون النبي قاله على ذلك الوجه"70"، أي عدم صحة الحديث بالشكل الذي رواه الراوي، بينما ذهب جمهور أهل السنة إلى أن الموت، وإن كان عرضاً، فلا مانع أن يجعل الله منه جسماً، وأن يقع الذبح على هذا الجسم إعلاماً بالخلود«71».
إذاً كان القياس السبب وراء رد الحديث عند القاضي عبدالجبار«72»، وتأويله عند الغزالي، والذي أراه عدم استبعاد تشكل الموت بأي شكل، إذا نظرنا إلى الموت على أنه أمر وجودي مغاير للحياة، أي هو خلق من خلق الله، كما قال تعالى: «الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور» «الملك:2»، وليس هو كائن بذاته، وهذا الأمر يسهل تقبله إذا نظرنا إليه بهذا الشكل، وإماتة الله الإنسان في أغلبها كما هو ملاحظ عبارة عن زرع الأسباب المؤدية إلى الموت، فليس ببعيد أن يجسم الله من هذه الأسباب شكلاً يريده، ثم يتم ذبحه ليزداد يقين أهل الجنة وأهل النار بالبقاء والخلود.
وبعد ذكر ماتقدم نخلص إلى تأكيد العلاقة الوطيدة بين العقل والقياس، وهذه العلاقة ليست علاقة تقابل، بل عد القياس جزءاً لايتجزأ من العقل، وبالتالي تكون العلاقة بينهما علاقة عموم وخصوص مطلق؛ فالعقل أعم مطلقاً من القياس بأعتبار أنه يشمله ويشمل غيره، والقياس أخص مطلقاً من العقل بأعتبار أن كل ماكان من القياس فهو من العقل، وبالتالي لايخرج فرد من أفراد القياس من دائرة العقل، ويمكن أن نمثل للعلاقة بينهما بدائرتين إحداهما وهي العقل تحيط بالأخرى التي هي القياس،
ولابد من التأكيد أن هذا القياس لم يكن تأثيره محصوراً على مستوى الحديث، بل أثر في دلالات القرآن، حيث نجد أن المعتزلة تؤول الآيات التي تصور الغائب على خلاف الصورة التي أمامنا، وبالتالي لايمكن أن يكون الغائب مخالفاً للصورة التي تقع أمامنا ولتأكيد ما قلناه بشكل تطبيق نقتصر على نموذجين من تفسير الزمخشري، لإثبات مدى تأثر المعتزلة بهذا القياس، ففي سؤال الله تعالى لجهنم: يقول الزمخشري «ت:538» عند قوله تعالى:« يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد» «ق:30»" وسؤال جهنم وجوابها من باب التخييل، الذي يقصد به تصور المعنى في القلب وتثبيته73" فمن الملاحظ أن حمل سؤال جهنم وجوابها على معنى التخييل، على خلاف الظاهر من النص، فالظاهر هنا غير مستبعد، وهو أن يقع السؤال والجواب، فالقدرة الإلهية صالحة لخلق ذلك في النار، ولايعنينا هنا مناقشة رأي الزمخشري بقدر مايعنينا، أثر هذا القياس في عملية العدول عن ظاهر النص، والعدول هنا جاء قياساً لحالة غائبة، وهي النار يوم القيامة على حالة مشاهدة، وهي نار الدنيا، ولما كانت نار الدنيا لاتعي ولاتتكلم فلتكن كذلك نار الآخرة«74».
وفي خطاب الله للسموات والأرض: يقول الزمخشري عند تفسيره لقوله تعالى:«ثم أستوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين» «فصلت:11»" ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد تكوينهما، فلم يمتنعا عليه... وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل، ويجوز أن يكون تخييلاً.. والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لاغير، من غير أن يحقق شيئاً من الخطاب والجواب"«75»، وماقلناه في الآية السابقة ينطبق على هذه الآية.
خامساً: القيمة العلمية لهذا القياس:
لابد من الاعتراف أنه يستعصي علينا أن نقدم تقويماً علمياً لهذا القياس الذي استخدمه المعتزلة، وسار على نهجهم الأشعرية«76» والماتريدية«77»، لأن الأمر يستدعي دراسة تخصصية يقتصر البحث فيها على القيمة العلمية لهذا القياس عند المعتزلة، ومع هذا سأحاول إعطاء فكرة عن مكانته بما يتسع المقام له، إذ يبدو أن الدافع لهذا القياس الذي استخدم في مقام الإلهيات أكثر من غيره هو محاولة الكشف عما هو مجهول بالنسبة للقائس، وهذا الأمر واضح من خلال تعريفه كما سبق، إذ هو عبارة عن إلحاق ما لم يعلم بما هو معلوم، ليكون غير المعلوم معلوماً من خلال قياسه على المعلوم، وهنا لابد من التساؤل: هل هناك داع لمعرفة ماهو مجهول حتى نتعرف بالقياس على المعلوم؟
فليس ثمة داع للخوض في هذا القياس فيما يتصل بالإلهيات، لأن ماهو مجهول منها لايعد ذا قيمة، ولو كان ذا قيمة، لما تركه الله غامضاً، وهذا الجواب يستند على جانب نظري وآخر تطبيقي:
ففي الجانب النظري لايعد هذا القياس مفيداً فيما يتصل بالإلهيات وهذا الجواب يستند على عدة معطيات، منها: أن هذا القياس استخدم بين المتكلمين أنفسهم، وقلما استخدم بين علماء المسلمين، وأرباب الملل المخالفة، وهذا واضح من خلال المعتزلة أنفسهم، فقد صرحوا أنه أكثر مايستخدم في الصفات الإلهية، والعدل الإلهي«78»، والبحث في هذين المحورين يختص بالمسلمين أكثر من غيرهم«79»، وكذا استخدمه الأشعرية والماتريدية في إثبات الصفات الإلهية«80»، وإذا كان أكثر استخدامه بين المتكلمين فلا داعي له، لأن هذه القضايا التي نريد التوصل إليها؛ إما أن نجدها في القرآن وإما أن لانجدها، فإن كانت موجودة فلاداعي للخوض فيها؛ لأن القرآن يكفينا مؤونة البحث في هذه القضايا من جهة الجهد المبذول، ومن جهة الضمان في عدم الانزلاق في الخطأ، ولو كانت على قدر من الأهمية لما أعرض الله عن ذكرها.
ولايُفهم من هذا الدعوة إلى الاقتصار على ماورد في القرآن فقط في كل المسائل المتصلة بالإلهيات، بل المقصود هنا أن ماكان محصوراً بين المسلمين، وكان من القضايا المتصلة بالصفات الإلهية فلا داعي للخوض فيها، إن لم يرد ذكر ذلك في القرآن.
أما المعطى الثاني: فهو أنه أكثر الصفات الإلهية وقضايا العدل التي ذكرها المتكلمون، ذكرها الله في القرآن، ولهذا نجد أن الله أسند لنفسه القدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والحياة، وهذه هي أبرز الصفات التي حاول المتكلمون إثباتها بالاستناد إلى هذا القياس، والوقوف على هذه الصفات، كما ذكرها القرآن، هو المنهج السديد في هذه المسائل مادامت هذه القضايا مطروحة بين المتكلمين المسلمين، أي أن هذه القضايا لاتحتاج إلى أدلة إضافية للإيمان بها، فيكفي أن تؤمن بالله لتؤمن من بعد بكل ماذكره الله من صفات ومغيبات، ولعلنا نجد في منهج القرآن تعزيزاً لما قلناه؛ حيث نلحظ أن القرآن عندما يخاطبنا في مسائل غيبية، كوجود الجن والملائكة والجنة والنار، لايحاول أن يثبتها بالأدلة، بل أغلب مايذكره يندرج في إطار الوصف لهذه الغيبيات، والوصف ليس إثباتاً، ويكفي أن نستدل على هذا أن الله تعالى ذكر الجنة أكثر من مائة وثلاثين مرة، وقد خلا ذلك من أي دليل عقلي على وجودها، وتفسير ذلك أن الله عندما يذكر الجنة يخاطب بها المؤمن، والمؤمن لايحتاج إلى دليل عقلي لإثباتها؛ إذ هي فرع مترتب على أصلٍ، وهو الإيمان بوجود الله ووحدانيته، ومن كان أمره كذلك يؤمن بشكل مباشر بوجود الجنة، لأن الإيمان بها فرع عن الإيمان بأن هذه الكلام من الله، وهذا الأخير متفرع عن الإيمان بوجوده، ولذا فهو سبحانه لايستدل في إثبات الأصل على الفرع، والصفات الإلهية قريبة من هذا الجانب؛ إذ من السهل أن تؤمن بكل الصفات الإلهية التي ذكرها القرآن بمجرد إيمانك بوجوده ووحدانيته.
أما إن تجاوزت المسألة المسلمين وأصبحت القضية مطروحة بين المسلمين والملل الأخرى، فإن هذا القياس مجد، لأن أصل الخلاف لن يكون في أغلبة دائراً حول الصفات وقضايا العدل، بل سيكون متركزاً على قضيتين جوهريتين هما الوجود والوحدانية؛ فمن كان ينكر الوجود أو الوحدانية، فلن يخوض في مسائل الصفات من القدرة والسمع والبصر.. ومن كان يؤمن بذلك فمن السهل الإيمان بالصفات لأنها الفرع، وهو ليس بحاجة بعد ذلك أن يدخل في فرعيات هذه الصفات وأحكامها، ككون الصفة عين الذات أم غير الذات، لأنه لايمكن إثبات ذلك أو نفيه إلا قياساً للخالق على المخلوق، وهذه من العيوب التي جرها قياس الغائب على الشاهد، والجدل بين المتكلمين أنفسهم.
والمعطى الثالث: هو أنه لايمكن إجراء هذا القياس من الناحية التأسيسية، وذلك لوجود المغايرة بين الخالق والمخلوق، فكيف نقيس الخالق على المخلوق، ونحاول أن نثبت لله أوصافاً أستناداً إلى المخلوق، ولنأخذ مثالاً على ذلك صفة العلم؛ كيف نثبت هذه الصفات بالاستناد على علم المخلوق، وعلم الله يغاير علم المخلوق من جميع الوجوه، فعلمه تعالى قديم، وعلم الإنسان حادث، وعلمه تعالى شامل، وعلم الإنسان نسبي قاصر، وعلم الله تعالى باق مستمر، وعلم الإنسان فان، يفني بفناء الإنسان، وحتى مع وجود الإنسان، فعلمه عرضة للآفات، فكيف نقيس علم الله على علم الإنسان! والحال هذه، وفي هذا السياق يقول الجويني «ت:478»: "فأما بناء الغائب على الشاهد فلا أصل له.. والجمع بالحقيقة81 ليس بشيء، فإن العلم الحادث مخالف للعلم القديم، فكيف يجتمعان في الحقيقة مع اختلافهما"82 وهذا النقد يتجه إلى العلة، فالعلة الموجودة في الشاهد غير متحققة في الغائب، لاختلاف الحقائق المكونة لعلم الإنسان، والأحكام المتصف بها علم الله، وإذا اختلفت الحقائق، فالعلة غير متحققة، وذلك يهدم القياس، لعدم توافر العلة، وهي من أهم أركانه، وهذا النقد الاختلاف بين الخالق والمخلوق هو أهم نقد يمكن أن يوجه إلى هذا القياس، فيما يبدو لي.
وقد يعترض على ماقلناه بأن "اختلاف الهوية المشخصة ليس مطلقاً عقبة في سبيل الجمع بين العلتين؛ لأن القائس لاينظر إلى خصوصيات المحال، ولكن إلى عمومياتها، فيقطع بهذا عقلاً وعادة وشرعاً، أما عقلاً فلأنّا نقطع أن المحل يصير أسود أو أبيض، أو عالما لعموم هذه المعاني، وأما عادة فلأنا نعلم أن زيدا احترق بيته بهذه النار، لا لأنه هذا البيت، ولا لأنها هذه النار، ولكن هذا بيت وهذه نار، أما خصوص البيت وخصوص النار، فلا صلة لها بالاحتراق؛ وأما شرعاً، فإننا نرجم الزاني، لا لخصوص زناه، ولكن لما صدر منه من مفهوم الزنا، فإذا مانظرنا إلى هذه العموميات أمكن الجمع بالعلة، وهنا يصل الباحث إلى درجة اليقين"83.
وخلاصة هذا الاعتراض أن الجمع بين الشاهد والغائب لاينظر فيه إلى خصوصيات كل من الغائب والشاهد، بل إلى ما يعم كلاً من الشاهد والغائب، وهو في مثالنا السابق، مطلق العلم دون النظر إلى خصوصيات علم الله من أقدمية وشمولية وبقاء إذا ماقورن بعلم الإنسان، وإلى خصوصيات علم الإنسان من حدوث ومحدودية وزوال إذا ماقورن بعلم الله؛ أي ينظر إلى القاسم المشترك بين علم الله وعلم الإنسان، والقاسم المشترك هو الإحكام والإتقان في الصنعة من قبل الشاهد والغائب، بغض النظر عن جزئيات الإتقان والإحكام ومواضعها، ويعد هذا الاعتراض هو الاعتراض الوحيد الذي يمكن أن يرد به على النقد السابق للجمع بين الشاهد والغائب، وهذا هو المسوغ لنقل الاعتراض كاملاً، غير أن هذا الاعتراض لايسلم من الخلل، فالمواضع التي استشهد بها تغاير القضية التي نحن فيها، فهو نوع من القياس مع الفارق، كما أن هذه المواضع لم يعتمد فيها على ماهو عام بل على الخصائص المكونة له، ويكفي لإثبات ذلك الوقوف على بعض الأمثلة التي ساقها المعترض.
فنفي خصوصية النار والبيت في عملية الإحراق، والوقوف عند مسمى النار ليس سديداً، لأنه ليس كل بيت قابلاً للاحتراق لمجرد وقوع النار فيه، وليس أي نار حارقة لما يمكن أن نطلق عليه بيت، ويبين ذلك أن النار الحارقة لابد أن تكون على أوصاف معينة، من القوة والاتساع... عندما يكون الاحتراق مرتبطاً ببيت يعسر على نار قليلة إحراقه، ولذا عندما تقع عملية الإحراق لبيت مكون سقفه وجدرانه من الخشب، مشيدة من الحجارة إلا مع تصور الفارق بين النارين، فليس كل نار حارقة للبيت الأول قادرة على إحراق البيت الثاني.
ومثل ذلك الزنا، فلا يقع الجلد أو الرجم إلا ضمن شروط معينة، بل إن مفهوم الزنا نفسه لايقع إلا مع توافر شروط معينة، ولهذا قد نجلد الزانيين، وقد نجلد الرجل فقط إذا تبين انتفاء الرضى والطواعية من قبل المرأة، لأنه لم يتحقق منها الزنا بالمفهوم الذي يوجب الجلد، وعدم تحقق ذلك يعني أن للخصوصية أثرها، ولعله يقصد بالخصوصية الشكل الذي وقع به الزنا، أي أن الهيئة التي وقع بها الزنا لا أثر لها في العقوبة، وهذا صحيح، لأن الهيئة لاتصلح أن تكون علة للعقوبة، لأنها وصف غير صالح لتعليق العقوبة عليها، وذلك لاضطرابها، ولكن هذا المثال لايصلح دليلاً، لأن هذا الخصوص «الشكل» ليس مكوناً أساسياً من مكونات الزنا، ولو كان مكوناً لما أهمله الشارع، بدليل أن الشارع لم يهمل مسألة الرضى والطواعية عند الزاني، ولذا لاتقع العقوبة على المكره، وليس هذا كمنع قياس علم الله على علم الإنسان، لأن لعلم الله خصوصيته، ولعلم الإنسان خصوصيته، بينما لاخصوصية للهيئة التي تقع بها الزنا، ولذا نجلد الزناة مع إهمال هذه الخصوصية، وهذا ماقصدته بالقياس مع الفارق.
أما في الجانب التطبيقي فلا يمكن تطبيق هذا القياس في الجانب الإلهي، وذلك لعدم وجود ضوابط واضحة في استعماله، ورغم أن المتكلمين قاموا بتطبيقه، إلا أن الناظر في هذه التطبيقات يجد عملية انتقائية في تطبيقه، ولنذكر نموذجاً على هذا، وهو رد القاضي عبدالجبار على دليل صفة الكلام عند الأشعري «ت:324» حيث استدل الأشعري على أن الله متكلم بالقياس على الشاهد، فلو لم يكن متكلماً لكان موصوفاً بضد الكلام من الخرس وغيره، وشأن الكلام كشأن العلم، فلو لم يكن موصوفاً بالعلم لكان موصوفاً بضده، وهذا هو حكم الحي فينا، ولم تقم دلالة على خلو الغائب من الكلام وأضداده، كما لم تقم دلالة على خلوه من العلم وأضداده، ولو جاز وجود حي غير متكلم ولاموصوف بضد الكلام لجاز، وجود عالم غير متكلم ولا موصوف بضد الكلام، فلمّا استحال ذلك فيما بيننا، استحال أن يكون الله لامتكلماً، ولا موصوفاً بضد الكلام، وإذا استحال ذلك وجب أن يكون الله متكلماً«84».
ومن الواضح أن دليل الأشعري عبارة عن إلحاق الغائب بالشاهد، وقد ذكر القاضي عبدالجبار هذا الدليل مختصراً ثم ذكر هذا الاستدلال قائلاً: "وعندنا أن العلة التي أقتضت هذا الحكم في الشاهد غير ثابتة في الغائب، وذلك أن أحدنا لايتكلم إلا بآلة فهي «أي الآلة» إذا اختصت بآفة وضرب من ضروب المنع، وصف الحي بأنه أخرس وإن كانت صحيحة"85". فيرى القاضي أن العلة لاتصلح أن تكون جامعاً بين الشاهد والغائب، لأن الشاهد يتكلم بلسانه، والله منزه عن ذلك ، والذي أريد الوصول إليه هنا، أن القاضي وقع في عملية انتقاء وانتخاب، حيث سعى إلى إيجاد مبررات لنقد هذا القياس، لأن المعتزلة لاتقول بوجود صفة الكلام، في حين أن هذا القياس قد استخدمه في إثبات كون الله قادراً وعالماً وسميعاً وبصيراً، والاعتراض الذي وجهه إلى الدليل السابق يمكن أن يوجه إليه، ولنأخذ من ذلك إثبات صفة القدرة الإلهية، فالله عنده قادر لأنه "قد صح منه الفعل، وصحة الفعل تدل على كونه قادراً... أما الذي يدل على أنه تعالى قد صح منه الفعل، فهو أنه قد وقع منه الفعل وهو أجسام العالم.. وأما الذي يدل على أن صحة الفعل دلالة على كونه قادراً، فهو أنا نرى في الشاهد جملتين، أحدهما صح منه الفعل كالواحد منا، والآخر تعذر عليه الفعل كالمريض"«86».
والناظر في هذا النص لايجد تفرقة بين هذا الاستدلال لإثبات كون الله قادراً، وبين استدلال الأشعري، لإثبات صفة الكلام لله، ولكن القاضي لما كان لايرى وجود صفة لله تسمى صفة الكلام«87» رد على دليل الأشعري بأن العلة لاتصلح للجمع، وهذه انتقائية، لأن الاعتراض الذي اعترض به على الأشعري يرد عليه؛ إذ يمكن أن يقال له إن العلة التي اقتضت هذا الحكم في الشاهد غير ثابتة في الغائب؛ لأن أحدنا لايقدر إلا بآلة، فيمتنع القياس، وكما يقال عن القدرة يقال عن الصفات التي أسندها المعتزلة لله من كون الله عالماً وسميعاً وبصيراً، لأنها كلها تقوم بالاستناد على هذا القياس«88».
وزيادة على هذا الانتقاء فإن هذا التطبيق جر المتكلمين إلى تصورات عجيبة جعلت من الخالق مماثلاً للمخلوق، وأكثر ماوقع فيه المعتزلة، وماكان يتخيل المرء من المعتزلة الذين دفعوا كثيراً من الأحاديث التي توهم التشبيه والتجسيم في نظرهم كأحاديث الرؤية، يعود عليهم هذا القياس بالتشبيه الذي فروا منه، وليس من المبالغة القول إنهم دخلوا في التشبيه من حيث لايشعرون، وإنهم أكثر المدارس الكلامية استخداماً للقياس وإسرافاً فيه؛«89» حيث أخذوا يتحدثون عن الله، وكأنهم ناظرين له، بل كأنه واحد منهم، فأوجبوا له كثيراً مما أوجبوه على أنفسهم، وأجازوا على الله كثيراً مما أجازوه على أنفسهم، ومرد ذلك إلى الثقة المطلقة بهذا المنهج.
وهذا المنهج كما قادهم إلى نوع من المشابهة فقد جرهم إلى الحد من صلاحية هذا الإله وقدرته، وهذا نتيجة القياس على المخلوق الضعيف المحدود القدرة.
ونكتفي بذكر بعض النماذج التي جرها هذا القياس، التي جعلت المعتزلة يصورون الإله كأنه إنسان من حيث لايشعرون، يقول القاضي في معرض إنكاره لرؤية الله: "أعلم أن مايصح أن يرى، لايجوز أن يختص بصحة رؤيته بعض الرائين دون غيره، كما أن مايصح أن يعلم لايجوز أن يختص بصحة العلم به بعض الأحياء دون بعض.. فإذا صح ذلك.. فلايجوز إذا أن يرى القديم شيئاً يستحيل أن نراه، كما لايصح أن يعلم مايستحيل أن نعلمه"«90» وعدم جواز أن يرى الله مالا نراه، لأنه "لايجوز أن يقع في المرئيات اختصاص.. وإنما وجب ذلك، لأن المرئي لايحصل بالرائي على بعض الصفات، بل يراه على ماهو به"«91».
فالناظر في هذا القول يجد فيه إسرافاً عجيباً، فكيف نجري أحكام الخالق على المخلوق، وكلمة المخلوق رمز إلى العجز والضعف... وهذا ليس من صفات الإله!؟ فهل قوانين الدنيا وأحكامها التي تلزم المخلوق وينضبط بها تلزم الخالق!؟ ثم ماهو الميزان الذي نحكم به على مايصح أن يرى ومالايصح، ومايصح أن يعلم ومالا يصح، حتى نقيس عليه الغائب!؟
ثم ما الدليل على أنه ليس هناك اختصاص في المرئيات؟!، أليس من الممكن أن يرى الله أشياء يختص برؤيتها هو دون غيره؟ يجيب القاضي عن ذلك بأن المرئي إذا كان ضمن شروط معينة فينبغي أن يرى بناء على هذه الشروط، وإذا فقدت هذه الشروط لم يصح أن يرى على مستوى الشاهد والغائب؛ أي كأن شروط الرؤية متصلة بالمرئي أكثر من الرائي، فعدم رؤيتنا للشيء مع توافر شروط الرؤية، دلالة على أن المرئي لايُرى من قبل الشاهد والغائب، ولهذا حكموا على الله بأنه لايرى مالا يصح أن نراه.
وقد رتبوا على هذه المسألة مسألة أخرى، وهي عدم جواز رؤية الله لنفسه، وهذا إيغال في استخدام هذا القياس، بل هو إسراف مابعده إسراف، وخوض في مسألة، لا العلم فيها نافع، ولا الجهل فيها ضار، يقول القاضي في هذا السياق: «فإذا دللنا على أنه لايصح أن نراه على وجه من الوجوه، وفي حال من الأحوال فيجب القضاء باستحالة كونه رائياً لنفسه، كما إذا ثبت أنه يستحيل أن نسمعه وندركه كإدراك الوجوه"«92». إذاً يربط المعتزلة بين عدم رؤيتنا لله الآن وبين عدم رؤيته تعالى لنفسه، والجامع بينهما أنه لو كان يرى لرأيناه إذا ارتفعت الموانع المانعة من الرؤية كالبعد والحجاب..«93»، والموانع مرتفعة؛ لذا لايصح أن ندعي عدم رؤيته بواحدة من الموانع كالبعد أو وجود آفة في العين..«94» فإذا لم نره مع ارتفاع هذه الموانع دل ذلك على عدم رؤيتنا له، وبالتالي على عدم كونه رائيا لنفسه.
لكن لماذا رتب المعتزلة على عدم رؤيتنا له تعالى أنه لايرى نفسه، أي ألا يمكن أن لانراه ومع ذلك يرى هو نفسه؟ يجيب القاضي عن ذلك بأن عدم رؤيتنا يرجع إلى كونه غير مرئي في ذاته، أي لايصح أن يرى، وإذا كان الأمر كذلك "فيجب القول باستحالة كونه رائيا لنفسه، كما أنّا إذا لم نسمعه.. وجب القضاء بأنه لايسمع نفسه، وكما إذا لم نر المعدوم لعدمه، وجب القضاء بأنه تعالى لايجوز أن نراه"95.
هذا النص يرجعنا إلى القاعدة السابقة التي ذكرها المعتزلة، وهي المساواة بين الغائب والشاهد، التي تقول:"لايصح أن يرى القديم شيئاً يستحيل أن نراه"، ولما كانت رؤيته تعالى محالة علينا لما يؤدي في نظرهم إلى التشبيه والتجسيم، كان الله لايرى نفسه، لأنه لو رأى نفسه لجاز أن يُرى من قبل غيره؛ إذ لا اختصاص في الرؤية عند المعتزلة لاشاهدا ولا غائباً، ولكن أما تساءل المعتزلة كيف يرى الله غيره، ولايرى نفسه! وليس القصد من هذا إثبات رؤية الله لنفسه، بل القصد إلزام المعتزلة بنتائج سيئة تترتب على التزام هذا المنهج «القياس» واستعماله إلى حد الغلو والإسراف في الإلهيات.
يضاف إلى ماتقدم عدم انسجام أغلب الأشعرية مع أنفسهم في التعامل مع هذا القياس، ولاننسى أن إثبات الصفات الإلهية عند الأشعرية قائم على هذا القياس96، وعدم الانسجام يدل على وجود مأزق فكري في التعامل مع هذا القياس، وهو مايعد تجريحاً في هذا القياس وتقليلاً من قيمته، مما يعني ضرورة استبعاده فيما يتصل بالصفات الإلهية، ويظهر عدم الانسجام في الفكر الكلامي الأشعري من الجانب التأسيسي والتطبيقي المتصل بهذه القياس، ونقصد بالانسجام عدم التساوق بين الموقف التأسيسي/ النظري والموقف التطبيقي العملي، أي أنهم رفضوا القياس من الناحية التأسيسية، ولكنهم عجزوا عن التخلي عنه من الناحية التطبيقية.
فمن الناحية التأسيسية نجد كثيراً من الأشعرية المتأخرين رفضوا هذا القياس، لأنه لايوصل إلى اليقين، وأقدم من رفضه فيما اطلعت عليه الجويني «ت:478»، وفي هذا يقول: "فأما بناء الغائب على الشاهد فلا أصل له"97 وسلك هذا المنهج الغزالي «ت:505»98 وسار من بعدهما الشهر ستاني «ت:548» والرازي «ت:606»99 والآمدي «ت:631»100، بينما قبله كل الأشعرية من الناحية التطبيقية سوى الآمدي101وعلى هذا الأساس نجد الجويني قبله، 102 وكذا قبله الغزالي وقام بتطبيقه،103 ومن الذين قبلوه تطبيقاً الشهر ستاني والرازي 104، هذا الاختلاف الواقع بين النظر والتطبيق يشعر المرء بوجود مأزق في هذا القياس لدى الأشعرية، وهو مايومئ إلى عدم اطمئنانهم له.
الخاتمة
اعتماداً على ماسبق فإنه لافرق من حيث المضمون بين قياس الغائب على الشاهد وهو القياس الكلامي، وبين قياس التمثيل وهو القياس الأصولي، وقد كون قياس الغائب على الشاهد جانباً مهماً من العقل الاعتزالي، وأكثر ماتبدى ذلك في إثبات الصفات الإلهية عند المعتزلة كالقدرة والعلم.. وكذا كان له دور أساسي في العدول عن السنة النبوية، وقياس الغائب على الشاهد إسلامي النشأة، كما أنه لم يكن موطن اتفاق من قبل العلماء؛ لأنه يقود في نظر من اعترض عليه إلى تعطيل صفات الله.
وكثير من المتكلمين لم يستطيعوا التخلص منه تطبيقاً على الرغم من الاعتراض عليه نظرياً، فيظهر مما سبق أن هذا القياس لايوصل القائس إلى القين، وقد أوقع هذا القياس المعتزلة في مزالق ومتاهات، وجرهم إلى تشبيه الله بمخلوقاته.
الهوامش
باحث سوري،دكتور في قسم العقائد والأديان بكلية الشريعة ،جامعة دمشق
1 أمين،أحمد ،.ضحى الإسلام القاهرة:مكتبة النهضة المصرية ،1963،ج1،ص138 139
2 الشابي ،علي ،مباحث في علم الكلام والفلسفة ،تونس:دار بوسلامة،1977،ص31
3 المصدر السابق،وانظر فتح الله،خليفة .محاضرات في الفلسفة الإسلامية،القاهرة: دار الجامعات المصرية،1979م ص51.
4 الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار بن أحمد الهمداني،شرح الأصول الخمسة،القاهرة:مكتبة وهبة ،1996م،ص284290.
3 سلطان منير،إعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة ،الإسكندرية:منشأة المعارف 1977م،ص54.
6 وأحياناً لايُذكر هذا القياس،في رسائل تتحدث عن نظرية المعرفة عند المعتزلة،وإن ذكر فإنه لايأخذ حقه من الدرس،مع العلم أن هذا القياس من أهم مكونات المعرفة عند المعتزلة،من ذلك أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم الإسلامية،المعهد الأعلى لأصول الدين ،جامعة الزيتونة في تونس،التي تقدم بها"فافي فؤدي شريف "تحت عنوان"نظرية المعرفة عند المعتزلة" ولم يلق بالاً لهذا القياس،إلا فيما يتصل بمصدر القياس،فقد ذكر ذلك بشكل سطحي ،بقول شريف:" وفي المسائل التي تأثر المعتزلة باليونان،مسألة قياس الغائب على الشاهد" ص112.
ولم يكشف كيف تأثر المعتزلة بالفكر اليوناني؟وقبل ذلك وعد بأنه سيولي اهتماماً خاصاً بالقياس عند المعتزلة ،لمعرفة "هل كان ذلك تأثراً بالفكر اليوناني ،أو بالفكرالإلهي الذي تربّوا عليه؟" م. س.ص 111 ولكنه لم يفِ بما وعد.
7 راغب،نبيل ،دليل الناقد الأدبي ،القاهرة :مكتبة غريب .1981 ،ص3244.
8 الباقلاني .أبوبكر محمد. تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل،تحقيق عماد الدين أحمد حيدر،بيروت:مؤسسة الكتب الثقافية 1987،ص32 ،ويقول الغزالي في تعريفه:"أن يوجد حكم في جزئي معين واحد فينقل حكمه إلى جزئي آخر يشابهه بوجه ما"،الغزالي ،أبوحامد محمد بن محمد معيار العلم في فن المنطق ،تحقيق علي أبو ملحم ،بيروت ،دار ومكتبة الهلال 1993.ص 138 139.
9 الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار بن أحمد الهمداني،المجموع في المحيط بالتكليف،تحقيق الأب جين يوسف اليسوعي،بيروت : المطبعة الكاثوليكية،1980،1980 ص114115 ،النيسابوري ،أبورشيد سعيد في التوحيد،تحقيق عبدالهادي أبو ريدة،القاهرة: المؤسسة المصرية العامة ،1965،ص493.
10 الغزالي.معيار العلم في فن المنطق ،مصدر سابق ،ص138 139
11 الشيرازي ،أبوأسحق إبراهيم ،اللمع ،بيروت:دار الكتب العلمية ،1985،ص96.
12 حبنكة،عبدالرحمن حسن ،ضوابط المعرفة ،ط3 ، دمشق :دار القلم .1988،ص228 ،وانظر: جليل الدين،سعيد .معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية،تونس:دار الجنوب للنشر ،د.ت ،ص367.
13 حبنكة ،عبدالرحمن،ضوابط المعرفة ،مصدر سابق ،ص228.
14 ابن تيمية ،تقي الدين أبوالعباس أحمد..درء تعارض العقل والنقل تحقيق محمد رشاد سالم،الرياض :دار الكنوز الأدبية ،1391ه ،ج6 .ص126.
15 أحمد،عطاالله مختار محمود ." مناهج الاستدلال لدى المتكلمين والفلاسفة المسلمين" «رسالة دكتوراه ،كلية دار العلوم ،جامعة القاهرة » ص334
16 ابن فورك أبو بكر محمد مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري،بيروت:دار المشرق 1986 ،ص286.وانظر :الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار ،المجموع في المحيط بالتكليف ،مصدر سابق ،ص164،المرشدي ،عبدالعزيز عبداللطيف ."قياس الغائب على الشاهد في الفكر الإسلامي ".«رسالة دكتوراه،جامعة الأزهر ،كلية أصول الدين بالقاهرة» ص27 28.
17 ابن فورك ،مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري ،مصدر سابق ،ص286.
18 االأسد أبادي ،القاضي عبدالجبار،المجموع في المحيط بالتكليف ،مصدر سابق ،ص164.
19 قد يقال كيف نُدخل الله من الجانب العرفي في خانة غير المعلوم،مع أنه معلوم من حيث صحة الاستدلال على وجوده؟ويجاب عن ذلك:أنه ليس بمعلوم في المواضع التي يراد علمها من خلال عملية القياس،وليس المقصود بغير المعلوم أنه مجهول بشكل كلي،،ولذلك نجد المتكلمين يدخلون الله ضمن مايسمونه بالغائب،ويقصدون بالغائب ماليس بمعلوم،وقد نقلنا في الصفحة السابقة قول القاضي:"وماليس بمعلوم غايباً" .ويقول الغزالي:"والمعنى بالغائب ماغاب عن علمك فترده إلى ماعلمته» الغزالي ،أبوحامد محمد بن محمد .المنخول= من تعليقات الأصول،تحقيق محمد حسن هيتو،ط2،دمشق :دار الفكر،1980،ص53 ،ومقصودهم بذلك أنه ليس بمعلوم في المواضع التي يراد معرفتها من خلال عملية القياس ،مع أنه معلوم وجوده ووحدانيته ...فالتسمية بالغائب فيها نوع من التجوز.
20 الشيرازي ،اللمع ،مصدر سابق ،104ص.
21 الغزالي ،المنخول،.مصدر سابق ،ص5354.
22 يقصد أن تصرفاتنا لاتقع بذاتها وإنما منا.
23 الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار،المجموع في المحيط بالتكليف ،مصدر سابق ،ص165166.
24 الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار،شرح الأصول الخمسة مصدر سابق ،ص151152.157158.161.168.203.وانظر:الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار ،المغني في أبواب التوحيد والعدل،تحقيق الأب ج.ش.قنواتي ،مراجعة إبراهيم مدكور ،إشراف طه حسين ،القاهرة: وزارة الثقافة والإرشاد القومي ،د.ت.ج5،ص 219220.240242.ج6،ص220،الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار ،المجموع في المحيط بالتكليف مصدر سابق ،ص113115.121.131.157158،161.168.203.
25 لابد من التأكيد أن أهل السنة متفقون مع المعتزلة في أن الله لايفعل القبيح، ولكن الخلاف في تطبيقات هذا المبدأ،فالمعتزلة فهموا القبيح فهماً مغايراً لفهم أهل السنة ،مماأدى إلى اختلاف في النتائج،حيث نجد المعتزلة تفهم الشفاعة لمن مات مرتكباً للكبيرة نوعاً من القبح،ولذا انكرت الشفاعة بهذا المفهوم،لأن الشفاعة لمن هذه حاله "يتنزل منزلة من قتل ولد الغير،وترصد للآخر حتى يقتله ،فكما أن ذلك يقبح فكذلك هاهنا» الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار ،شرح الأصول الخمسة ،مصدر سابق ،688.
26 المصدر السابق،ص32
27 الغزالي، أبوحامد محمد بن محمد القسطاس المستقيم.دمشق: دار الفكر ،1996،ص 207،ويقول الآمدي: "إن أصل الخصم فيما يرجع إلى وجوب رعاية الصلاح والأصلح في حق الباري تعالى، ليس إلا بالنظر إلى الشاهد "الآمدي،سيف الدين علي بن أبي علي،غاية المرام في علم الكلام،تحقيق حسن محمود عبداللطيف،القاهرة:المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ،11971،ص229.
28 انظر في هذه المسائل: الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار ،المغني ،مصدر سابق ،ج 7،ص 4849،الأسد آبادي،القاضي عبدالجبار .شرح الأصول الخمسة،مصدر سابق ، ص332333.493495.الجشمي،الحاكم،تحكيم العقول في تصحيح الأصول،تحقيق عبدالسلام بن عباس الوجيه،عمان:مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية،2001.،ص117.123.143.
29 الأسد آبادي،القاضي عبدالجبار،المجموع في المحيط بالتكليف ،مصدر سابق ،ص166،.ولهذا نجدالقاضي عند الجمع بالعلة يحاول إثبات أن العلة في ترك القبيح في الشاهد هو علمه وغناه دون سوى ذلك من العلل الأخرى "فإن قيل ومن أين أن العلة في ذلك ما ذكرتموه من علم الشاهد بالقبح واستغنائه عنه حتى تقيسوا الغائب على الشاهد؟ قلنا لأن العلة ليست بأكثر من أن يثبت الحكم بثباتها،ويزول بزوالها،وليس هناك ما تعليق الحكم عليه أولى"الأسد آبادي ،القاضي عبدالجبار ،شرح
الأصول الخمسة،مصدر سابق ،ص33، ويفه من هذا أمران : الأول: أنه ذكر شرط العلة، وهو دوران الحكم معها وجوداً وعدماً ،فإذا وجدت وجد الحكم ،وإذا عدمت عدم الحكم، ،وهذا مايسمى عند المتكلمين والأصوليين بالطرد والعكس ؛أي أن تطرد /توجد العلة مع الحكم حيثما وجد ،وتنعكس /تنعدم العلة حيث عدم الحكم،ويجمع العكس والطرد مصطلح "دوران العلة وجوداً وعدماً" و،الثاني" يستشف من قوله السابق أنه قام بعملية فحص للأوصاف التي يمكن أن تكون علة،ومن ثم استبقاء مايصلح أن يكون علة،وهو علم الشاهد بالقبح ،وغناه عنه،واستبعاد ماسوى ذلك من الأوصاف التي لا يصلح التعليل بها،أي قام بعملية سير وتقسيم على حد تعبير الأصوليين.ولهذا نجد القاضي يعترض على الأوصاف الأخرى التي يمكن أن يراها المخالف علة،انظر.المصدر السابق .ص303 304.
30 يقول نشأت عبدالجواد محمد ضيف في معرض حديثه عن أثر الفلسفة اليونانية في الفكر المعتزلي:"الفلسفة اليونانية كانت القاعدة التي ارتكزت عليها عقلية المعتزلة.. وكل ما نجده في مباحثهم الكلامية تقريباً من برهان وجدل ومناقشات..ماهي إلا نتيجة مباشرة لتأثرهم بالمنطق والفلسفة اليونانية"،عبدالجواد،نشأت ."المعتزلة واتجاههم العقلي،وأثره في تطور الفكر الإسلامي" .«رسالة دكتواره،كلية أصول الدين،جامعة الأزهر»،ص132،.وهذا القول لايخلو من غلو،فهل هذه المناهج هي حكر على الفكر اليوناني؟ثم هل مباحث المعتزلة المتصلة بالإلهيات والغيبيات والنبوات...هي أثر من آثار الفكر اليوناني؟ألم يجد المعتزلة في الدين الإسلامي دعوة ملحة إلى إعمال العقل؟ ولم لايكون هذا مصدراً أساسياً للعقل المعتزلي ،سيما أن أغلب المناهج التي درج على استخدامها المتكلمون نجدها في القرآن الكريم؟انظر المصدر السابق،ص6991.
وأكثر من حاول أن يجعل الفكر اليوناني حسب ما اطلعت عليه مصدراً للمعتزلة هو الدكتور ألبير نصري نادر،حتى إنه جعل ردود المعتزلة على المشبهة والمجسمة مقتبسة من الفكر الأرسطي! انظر:نادر، ألبير نصري،فلسفة المعتزلة:فلاسفة الإسلام الأسبقين .الإسكندرية: مطبعة دار نشر الثقافة .1950 ،ص55.
31 من هؤلاء دي بور الذي يرى أن المفكرين الأوائل في الإسلام كانوا"مؤمنين بسمو العلم اليوناني، حتى لم يكن يخالط نفوسهم ريب في أنه قد بلغ أعلى درجات اليقين..وظلت الفلسفة الإسلامية على الدوام فلسفة.. عمادها الاقتباس مما ترحم من كتب الإغريق.. فلانجد في عالم الفكر خطوات جديدة تستحق أن نسجلها له،دي بور ،ت .ج ،تاريخ الفلسفة في الإسلام .نقله إلى العربية عبدالهادي أبوريدة ،تونس:الدار التونسية ،1981،ص6970 ينضح هذا الكلام بالتجني على العقل الإسلامي،فما كان المسلمون حسب ما اطلعت عليه ينظرون إلى الفلسفة اليونانية هذه النظرة التقديسية،ولا أدل على ذلك من ردود الفكر الإسلامي على ماجاء به أرسطو، ويكفي للتدليل على ذلك ذكر بعض النماذج.
1 الشافعي «ت:204» :قام الشافعي ب " مهاجمة المنطق الأرساطاليسي" مهاجمة شديدة تصل به إلى حد التحريم" النشار،علي سامي . مناهج البحث عند مفكري الإسلام،بيروت،دار النهضة العربية.1984 ،ص 86.
2 النظام «ت: 231»: بات ليلة عند جعفر بن يحيى البرمكي " فتحاورا في خبر الأوائل ،وذكرا أرسطاطاليس،فقال«النظام»: قد نقضت عليه كتابه؛فقال له جعفر:كيف وأنت لاتحسن أن تقرأه؟قال أيما أحب إليك أن أقرأه من أوله إلى آخره، أم من آخره إلى أوله؟ثم اندفع يذكر شيئاً فشيئاً،وينقض عليه فتعجب منه جعفر" الأسد آبادي،القاضي عبدالجبار بن أحمد الهمداني ،فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ،تحقيق عبدالكريم عثمان،القاهرة: مكتبة وهبة ،1996م ،ص264265.
وقد ألف كثير من علماء المسلمين كتباً ردوا بها على أرسطو طاليس" كما أن له كتاباً يسمى "مقالات الفلاسفة" و"الرد على الفلاسفة"و"الرد على أهل المنطق" انظر الخطاف ،حسن ."الصفات الإلهية عند الأشعري "رسالة بحث للحصول على شهادة الدراسات المعمقة في أصول الدين،المعهد الأعلى لأصول الدين جامعة الزيتونة، تونس .ص1718.
ورد الأشعري على الفلاسفة وعلى المنطق يدل على أن للمتكلمين موقفاً من المنطق الأرسطي ،وليس هذا خاصاً بالأشعري ،فمن المتأخرين نجد ابن تيمية «ت:728» الذي ألف كتاباً كاملاً في نقض المنطق اليوناني.
بل إن الفاحص المتأمل يجد أن الفلسفة اليونانية لم تعط للعلم مضمونه الحقيقي،بما هو علم قابل للتطور والاستمرار،حيث أكدت أن العلم الذي وصلت إليه لايمكن تجاوزه،وأدى ذلك إلى تحجر مفهوم العلم،إذ أصبح مفهوم العلم مقصوراً على تعلم وتعليم ماجاء به أفلاطون وأرسطو،وبذلك يتوقف الإبداع،ويحل محله الاجترار،انظر: المرزوقي ،أبو يعرب ،منزلة الكلي في الفلسفة العربية،تونس: جامعة تونس ،1994م ص140.،خلاصة ماتقدم أن الفلسفة الأرسطية ليست بالشكل الذي صوره دي بور.
32 الشافعي،حسن محمود . المدخل إلى دراسة علم الكلام،ط2 ،القاهرة : مكتبة وهبة ،.1991 ،ص173174.
33 قارن بين أركان القياس التي ذكرتها سابقاً وبين أركانها عند الأصوليين، وانظر كنموذج للقياس عند الأصوليين: السبكي، تقي الدين أبو الحسن، الإبهاج في شرح المنهاج، تحقيق جماعة من العلماء، بيروت: دار الكتب العلمية، 1984، ج3، ص37، الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد المستصفى من علم الأصول، تحقيق محمد عبدالسلام عبدالشافي، بيروت: دار الكتب العلمية، 1413ه، ص280.
34 المصدر السابق.
35 أحمد، عطا الله مختار محمود، مناهج الاستدلال لدى المتكلمين والفلاسفة المسلمين مصدر سابق، ص278.
36 أبو سعدة، مهدي حسن، الاتجاه العقلي في مشكلة المعرفة عند المعتزلة، القاهرة: دار الفكر العربي، 1993، ص 106 110.
37 لايفهم من أن هذا المدارس الكلامية الأخرى كأهل السنة مثلاً لم تتأثر بهذا، وإنما جاء ذكر المعتزلة سيرا مع منهج البحث.
38 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص182.
39 الشيرازي، اللمع، مصدر سابق ص104.
40 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار، شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص 151 152.
41 انظر في هذه الصفات: الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار، المغني، مصدر سابق، ج5، ص219 022 240 242، وانظر الأسد آبادي القاضي عبدالجبار المجموع في المحيط بالتكليف، مصدر سابق، ص113 115، 121، 131 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص157 158، 161، 168، 203.
42 ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد، شرح العقيدة الأصفهانية، القاهرة: دار الكتب الحديثة 1960، ص73.
43 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار، شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص228.
44 ابن تيمية، أحمد درء تعارض العقل والنقل، مصدر سابق، ج1، ص97.
45 ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد كتاب الصفدية تحقيق محمد رشاد سالم، ط2 بيروت: مؤسسة الريان، 1406، ج2،ص36.
46 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار، المجموع في المحيط بالتكليف، مصدر سابق، ص208 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص 248 249.
47 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار المغني مصدر سابق ج4، ص140.
48 الزمخشري، أبو القاسم جار الله تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل بيروت: دار الكتب العلمية، 1995، ج 2، ص52، عند تفسيره لقوله تعالى (لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) «103» «الأنعام: 103».
49 الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد الاقتصاد في الاعتقاد، تحقيق موفق فوزي الجبر، دمشق: دار الحكمة، 1994، ص73.
50 للتوسع في هذا الموضوع، انظر: الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار المغني، مصدر سابق، ج 4 في الاعتراض على من يقول بالرؤية، ومحاولة الاستدلال على عدم حصولها بالعقل والنقل.
51 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص268.
52 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار المغني، مصدر سابق، ج4، ص230.س.
53 القاضي عبدالجبار، تنزيه القرآن عن المطاعن: سورة القيامة، ط، الشركة الشرقية للنشر والتوزيع، دار النهضة الحديثة، بيروت ص: 486.
54 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار، شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق ص666 واستدلوا على تخليده بالعقل والنقل، انظر: الأسد آبادي القاضي عبدالجبار، شرح الأصول الخمسة، مصدر سابق، ص656 665 الأسد آبادي، القاضي عبدالجبار فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، مصدر سابق، ص209 210 الجشمي، الحاكم.
تحكيم العقول في تصحيح الأصول، مصدر سابق، ص220 222
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire