mercredi 29 juin 2016

أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني *** فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي *** وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيث *** أبو العلاء المعريِ




هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد أبو العلا المعرى





مرئيات الأعمى – أبو العلاء المعري سبق دانتي في رحلته المعرفية … “هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد.”



الدكتور عارف الكنعاني

نصل اليوم إلى حكاية قصيدة، تعتبر من أهم قصائد الشعر العربي ألا وهي قصيدة أبي العلاء المعري:
غيـرُ مجـدٍ فــي ملتــي واعتقــادي
نــــوحُ بالـكٍ ولا ترنـــــم شـــــادي
وقبل أن نسرد الحكاية لا بدّ لنا أن نتعرّف إلى بطلها الشاعر الفيلسوف والمفكر صاحب «رسالة الغفران» التي استوحى منها دانتي كتابه المشهور الكوميديا الإلهية
فمن هو أبو العلاء المعري.
هو أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري المولود سنة 363 هـ، أي حوالي 973 ميلادية والمتوفى سنة 449 هـ، أي 1057 ميلادية.
ولد المعري في معرة النعمان، وهي إحدى المدن السورية المعروفة، ومنها استمد اسمه، ومنه استمدت شهرتها.. أصيب أبو العلاء بالجدري، وهو في الرابعة من عمره، وبسبب هذا المرض أصيب بالعمى وكف بصره.
ولكن أبا العلاء كان محظوظاً بنشأته في عائلة تحب الأدب وتنبغ في الشعر، تلك العائلة المعروفة بعائلة بني سليمان، حيث كان جده أول قاض في المدينة.
أتاحت له هذه النشأة، على الرغم من فقده لبصره أن يدرس علوم اللغة والأدب والحديث والتفسير والفقه على نفرٍ من عائلته، وكان عدد كبير منهم من الفقهاء والقضاة والشعراء. في حلب قرأ المعري النحو على أصحاب خالويه. وفي أواخر سنة 398 هجرية سافر إلى بغداد، فزار دور الكتب فيها وأخذ عن علمائها، وكانت بغداد في ذلك الزمن تعج بالعلماء في كل علم وفن. وفي سنة 400 هجرية عاد إلى مسقط رأسه ليبدأ رحلته مع التأليف والتصنيف.
ولم تكن المرحلة سهلة، ولكنه تفرغ لها تفرغاً تاماً، وقام بعزل نفسه عن الناس، ولازم بيته الذي أصبح كسجن اختياري له.. ولهذا سمى نفسه (رهين المحبسين) أي حبس العمى وحبس المنعزل.. وهذا المصطلح هو الذي اشتهر به، رغم أنه قال في إحدى قصائده إنه رهين ثلاث سجون وليس اثنين:
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEiMxpzBWT605GBPPa3vng7QvxZB7M3Wgcbkzx8tCaci-hRX0eZvEHThf1M8l30C7Rej8iUdcKlA9nNiqlXgvQhXbDIb4kn-5MRNCnvmedUebZeOvkEQfaphQsYosu7kom5YvMhtK6BMjsnT/s640/%D8%A3%D8%A8%D9%88+%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7+%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%89.jpg

أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني *** فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ
لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي *** وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ


عاش المعري بعد خيار العزلة الذي اختاره زاهداً في الدنيا معرضاً عن لذاتها، ولم يتزوج ولم ينجب أولاداً، حيث كان يعتبر أن الإنسان يجني على من ينجبه من الأولاد والبنات. وهذا ما جعله يكتب على شاهدة قبره:
هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد.
لم يكن يأكل لحم الحيوان ولا ما ينتجه من الدهن واللبن، حتى أنه امتنع عن البيض والعسل الذي اعتبره نتاجاً لنحلة مجدة صنعته ليكون طعاماً لها لا طعاماً للبشر.. حتى لباسه كان خشناً وبسيطاً.
كان يعيش لفلسفته، ويجسد ما يقوله في شعره بنمط حياة صعب يشبه نمط حياة الرهبان.. بل إن النمط الذي اختاره أبو العلاء المعري أصعب وأشد قسوة. أمام شعر ونثر أبي العلاء، وقف الدارسون والنقاد مواقف متناقضة، ولم يلق هذا الكم من الجدل أي شاعر عربي آخر.
اتهمه بعض النقاد بأنه هاجم عقائد الدين، ورفض مبدأ أن الدين يمتلك الحقائق التي لا تقبل الجدل، وأنه ندد بالخرافات التي ترويها الأديان.
وقال آخرون: إنه صاحب فكر متشائم.
ويستشهد البعض بأبيات من شعره مثل قوله:
وكــان النــــاسُ فـــي يمــنٍ رغيــدٍ
فجـــــاؤوا بالمُحـــــالِ فكــــــدّروه
ولكن آخرين نقضوا هذا الرأي، وقالوا: إنه كان مسلماً ولا يشرب الخمر ولا يخالف تعاليم الإسلام، بل إنه في عدد من قصائده كان يمدح النبي ويصلي عليه، ويعتبر أنه جاء بالحق ويستشهدون بقوله:
دعاكـم إلــى خيــر الأمـــور محمــدٌ
وليس العوالي في القنا كالسوافلِ
حداكم على تعظيم من خلق الضحى
وشـهب الدجى من طالعـات وآفـلِ
والزمكـــم ما ليـــس يعجـــز حملــه
أخا الضعـف من فـرضٍ لـه ونوافـلِ
وحــث علـى تطهيـر جسـم وملبـس
وعاقب في قذف النسـاء الفواضلِ
وحــرّم خمــراً خلــت ألبــاب شــربها
من الطيشِ ألباب النعـام الفـواضـلِ
فصلـــى عليـــه اللــه ما ذرّ شـــارقٌ
وما فـتَّ مسـكاً ذكـره في المحافلِ
وسواء أصاب النقاد أو أخطأوا، فإن أبا العلاء يبقى ظاهرة منفردة.. ويبقى ما أنتجه من فكر وشعر ونثر مخزوناً ثقافياً عربياً لا ينضب معينه، ولا يجف نبعه.
فهو فيلسوف يتخذ العقل دليلاً أخلاقياً له. وهو شاعر متمكن فنه. التزم بما لم يلتزم به الشعراء السابقون ولا التزم به اللاحقون، حيث كانت لا تقتصر على حرف واحد، بل تمتد لتشمل حرفين وثلاثة أحياناً.. وظهر ذلك واضحاً في ديوانه «لزوم ما لا يلزم». وفي هذا الديوان كانت أطروحة الأديب العربي الكفيف طه حسين، والتي نال بها درجة الدكتوراه من جامعة السوربون في باريس. في ديوانه هذا مجموعة قصائد قصيرة وطويلة تتناول موضوعات مختلفة ولكنها كلها تحمل فلسفته ونظرته إلى الحياة.
يقول في إحدى قصائده ويلتزم فيها بقافية الدال والألف والنون:
أنافـق النـاس إنـي قـد بليــتُ بهـم
وكيـف لـي بخـلاص منهـــم دانـي
مـن عـاش غيـر مــداجٍ مـن يعاشــره
أســاء عشـــــرة أصحـــاب وإخــوان
كـم صَاحــب يتمنــى لو نعيــت لـه
وإن تشــكيّت راعانـــــي وفدّانـــي
ومــا أبالــي وأردائـــــــي مبـــــرأة
مـن العيــوب إذا ما الحتـف أردانـي
أما الجديدان من ثوبي ومن جسدي
فســــيبليان، ولا يبــلى الجديـــدانِ
وفي قصيدة أخرى يقول:
لا تُهـادِ القضـاة كي تظلـم الخصـم
ولا تذكــــــــــرتَّ ما تهـــديــــــــهِ
إنّ مـــن أقبـــح المعايــــب عــــاراً
أنْ يمـــنَّ الفتـــى بمــا يســـــــديهِ
كان أبو العلاء معجباً بالشاعر أبو الطيب المتنبي، وقد أفرد له كتاباً سماه «معجزة أحمد»، وقد عناه المتنبي عندما قال مفتخراً:
أنا الذي نظـر العمــى إلــى أدبـــي
وأسـمعت كلماتــي من بــهِ صمــمُ
أما كتابه «رسالة الغفران»، فيعتبر من أهم كتب التراث العربي وهو كتاب يتناول فيه الحضارة العربية الشعرية بأسلوب غريب ومختلف عن بقية الأساليب الأدبية المعروفة، فهو يحكي عن زيارة قام بها المعري للجنة.. وهناك التقى بشعراء الجاهلية واطلع على أحوالهم، وناقشهم فيما تركوه على الأرض من إنتاج.. وقد سبق أبو العلاء دانتي الذي اختار نفس طريقة المعري في زيارة الجنة والتحدث مع الموتى.
ولقد وقف كثير من الأدباء والشعراء في باب المعري وطلبوا منه تحديد موقفه:
نحن حتى الآن يا أبا العلاء لا نستطيع أن نعرف موقفك من قضايا كثيرة، الموت.. الحياة.. الخلود..
ـ لأنكم لا تبصرون مثلي.
أتقولها وأنت الأعمى ونحن المبصرون.
ـ أنتم تنظرون ولا ترون.. فالحقائق لا ترى بالعين المجرّدة.. ولكن بعين القلب وعين العقل.
ألا تستطيع أن تلخص لنا فكرك وفلسفتك.
ـ نعم أستطيع.. ولكن حتى لو فعلت فإنكم تحتاجون إلى قوة إبصار العقل وقوة إبصار القلب.
وألقى أبو العلاء قصيدته الرائعة أمام أولئك المتسائلين الحائرين، وكانت بالفعل ملخصاً وافياً لجميع أفكاره وآرائه في الوجود والحياة والموت.
ويقول فيها:
غيـرُ مُجــدٍ فــي مِلَّتــي واعتقــادي
نــــوحُ بــاكٍ ولا تَرنُّـــــمُ شــــــادي
وشـــبيهٌ صــوتُ النِّعــيِّ إذا ما قــد
سَ بصــوتِ البشـــــير فــي كل نـادِ
أبكَـــتْ تلكـــمُ الحمامـــــةُ أم غـــذَّ
تْ علــى فــــرعِ غصنهــــا الميّـــادِ
صـــاحِ هـــــذي قبورنــا تمــلأ الرُّحْـ
بَ فأيــن القبـــور مـــِن عهــدِ عــادِ
خفــــف الــوطءَ ما أظــن أديــم الأ
رْضِ إلا مـــن هــــــذهِ الأجســــــادِ
وقبيـــــحٌ بنــــــا وإن قَــــدُمَ العَهْـ
دُ هـــــوانُ الآبــــــاءِ والأجـــــــدادِ
سـِرْ إِن اسـتطعتَ في الهـواء رويـداً
لا اختيــــالاً علــى رفــــاتِ العبـــادِ
ربَّ لَحْـــدٍ قـــد صــــارَ لحــداً مــراراً
ضاحـــكٍ مـــن تزاحُــمِ الأضــــــدادِ
ودفيــنٍ علــــى بقايـــــا دفيــــــن
فـــي طويــــل الأزمـــــانِ والآبَــادِ
فاســـأل الفرقديـــن عمـــن أحَسّـــا
مِـــن قبيـــل وآنَســــاً مــــن بـــلادِ
كـــم أقامــــا علــــى زوالِ نهــــــارِ
وأنـــــارا لِمُدْلِــــــجٍ فـــي ســـــوادِ
تعــبٌ كُلُّهـــــا الحيــــاةُ فمــــا أعْـ
جـــب إلا مــن راغــبٍ فــي ازديـــادِ
إنْ حزنـاً فـي ســـاعةِ المـوتِ أضعـا
فُ ســــرورِ فــي ســـــاعة الميــلادِ
خُلِـــقَ النـــاسِ للبقــــــاءِ فضَلَّـــتْ
أمّــــــةٌ يَحْسَبونَهُـــــمْ للنفـــــــــادِ
إنمــــا يُنقلـــــونَ مـــــن دار أعمـــا
لٍ إلـــى دارِ شـــــــقوةٍ أو رشــــــادِ
ضجعـــةُ المــــوتِ رَقــدَةُ يُســتريحُ
الجسمُ فيهــا والعيــشُ مِثلُ السُّهادِ
أبنـــاتُ الهديـــلِ أسْـــعدْنَ أو عِـــدْ
ن قليــــلَ العــــــزاءِ بالإسْــــــــعَادِ
إيه للـــــهِ دُرَّكُــــــنَّ فأنْتُـــــــنَّ اللـ
واتـــي تُحْسِــــــنْ حِفــــظ الــوِدادِ
ما نســــــيتُنَّ هالكــــاً فـــي الأوان
الخــالِ أودَى مِـنَ قبــل هُــلكِ إيـادِ
بَيْــدَ أنــي لا أرتضــــي ما فَعَلتُــــنَّ
وأطــواقكُــــــنّ فـــي الأجْيَـــــــادِ
فتَسَـــــلّيْنَ واســــــــتعِرْنَ جميعـــاً
مـِن قميـصِ الدجـــى ثيــابَ حِــدادِ
ثــم غــرِّدنَ فــي المآتــــم واندُبْــنَ
يشــجو مـــــع الغوانــــي الخِــــرادِ
قصـــدَ الدَّهـــْرَ مـن أبـي حَمــزةَ الأ
وّابِ مولـيَ حِجـىً وخـِدْنَ اقتِصــادِ
وفقيهـــــاً أفكـــارُهُ شـــــدْنَ لِلنّعْـ
مَاــنِ مــا لــم يَشِـــــدْهُ شِــعَرُ زيــادِ
فالعِراقـــــيُّ بَعْـــــــدَهُ للحِجـــازي
قليــــلُ الخــلافِ سَـــــهْلُ القِيــــادِ
وخطيبــــاً لِوقــــامَ بــــينَ وحــوشٍ
علـــــمَ الضاريـــــــاتِ بِرَّ النَقــــــادِ
مســتقي الكــفِّ من قليــبِ زجــاجٍ
بغُــــروبِ اليـــــــــراعِ مــاءَ مِـــدادَ
ذا بَنــــانٍ لا تَلمْـــسُ الذهـــب الأحـ
مَرَ زهـداً فــي العَسْــجَدِ المُســتفادِ
وَدِّعــا أيهـــــــا الحفيـــــان ذاك الـ
شـــــخصَ إنّ الـــوداعِ أيَســـــــرُ زادِ
واغســـلاهُ بالدّمـــعِ إن كان طهـــراً
وادفنـــاه بيــــن الحشـــا والفــؤادِ
واحبـواهُ الأكفــانَ مــن ورقِ المُصْـ
حَـــفِ كبــراً عـــن أنفـــس الأبْـــرارِ
وَاتلُـــوا النعــــشَ بالقـــراءةِ والتسْـ
بيــــحِ لا بِالنحيــــــبِ والتعـــــــدادِ
أسَــــفٌ غـــيرُ نافـــــــعٍ واجتهــــادٌ
لا يُــــودي إلـــى غَنـــــاءِ اجتهـــادِ
طالمــا أخـرجَ الحَزيــنِ جَــوى الحُـــزْ
نَ فأنحــــى علـــى رقــابِ الجيـــادِ
وهــوَ مَـنْ سُــخِّرَتْ له الإنــسُ والجـ
نُ بمـا صَـــحَّ مـــن شـــهادة صَـــادِ
خـافَ غـــدرَ الأنـــام فاســــتودَعَ الـ
ريـــحَ ســـليلاِ تغــــذُوهُ دَرَّ العِهــــادِ
وتوخــــى لـــهُ النجـــــاةَ وقـــد أيـْ
قـــــنَ أنّ الحِمــــــامَ بِالمرصــــــادِ
فرمتـــهُ بـــه علـــى جانـــب الكُـــرْ
ســــِيّ أمُّ اللُّهَيْــــمِ أخــــتُ النــــآدِ
كيفَ أصبَحـْتَ في مَحَــلِّكَ بعـــدي
يا جديـــراً منــيّ بِحُسْــــنِ افتِقــــادِ
المراجع:
1- ديوان أبو العلاء المعري
2- لسان العرب
المصدر: الاتحاد
رابط المصدر: