الشاعر والمفكر سليم دولة
26 mars 2011, 14:43
مع الشاعر والمفكر سليم دولة
حاوره: عوض سلام
تحية تليق بمقام من يريدون الحياة باقتدار، تحية من شعب إذا الشعب يوما أراد الحياة.. وشكرا لروح الشقيق الشاعرالمصري مصطفي الرافعي الحاضر بروحه الشعرية العالية.. في نشيدنا الوطني.
إنه لمن الواجب الأخلاقي والجمالي، تحية أرواح الشهداء في كل جغرافيا تونس الوطن، ولروح محمد البوعزيزي، الذي بقدحة نار أوقد، دون وعي منه، شرارة الانتفاضة، من ذلك الجنوب المقهور من قبل نظام الجنرال الفار ومن قبْلُ منْ قبل سليله، وإن كان مدى الامتعاض من السياسات القمعية والمفرطة في قمعها إلى حد تبذير القمع ذاته، من قبل التجمع الدستوري الديمقراطي. قد عمت كل جغرافيا الوطن دون استثناء وإن كانت بنسب مختلفة، غير أن لبعض الجهات استحقاقات واضحة في هذا التمرد والذي استحال بطريقة عجائبية إلى فاعل دافع لتحقيق شروط إمكان ثورة ترسم الغيات وتحدد بكل دقة الأدوات، من ذلك أن أهالي جهة القصرين، قصريْ الشَوك، والمُمَانعة وليس قصر الشوق... وجهة ‘‘تالة ‘‘ و‘‘سيدي بوزيد‘‘ ومن قبلُ جهة قفصة وبالتحديد الرديف وما يعرف بأحداث الحوض المنجمي وسائر مناطق الاحتجاج ضد الظلم والظلم المُقنَع والطغيان السُلطوي الهذياني.
فتحية لأرواح الشًهيدات، كل الشهيدات والشُهداء كل الشُهداء، وتحية لحراس وردة ثورة الفتيان الأباة وفتيات الثورة الأبيات.
أما عن سؤلك حول ‘‘تونس‘‘ الأمس فيحيلني إلى مسألة الزمن. يالهذا الأمس الذي يدوم؟؟ هل قمنا سريعا بطقوس حدادنا علي الميت فينا.
ثلاثة وعشرون سنة من حكم التجمع الدستوري الديمقراطي حزب الأغلبية كما يسمي نفسه والذي يظل في نواته وفي أدائه ومؤسساته وممارساته.. الحزب الواحد الوحيد الأوحد الأحد بمعنى أنه لا دستوري ولا ديمقراطي، إذ هو، وإن تجمل، بخلق معارضات على قياسه، ونصب أعضاء مجلس النواب إيناثا وذكرانا ومابينهما قواما على قياسه تصرف في دستور البلاد، جعل منه مُسْودَة يُثبتُ منها ما يُثبتُ ويَمْحُو منها مَا يَمْحُو كَمَا تَصرَفتْ عليسة مؤسسة قرطاج الأسطورية في جلد الثور الأٌسطوري استبلاها للسُكان الأصليين لبلاد ترشيش التسمية القديمة لتونس الغابرة. دستور يقيسه الحاكم بأمر حسابه البنكي والرأسمال العابر للقارات.. على قياس حذاء صانع الانقلاب العسكري.. اعتمد هذا التجمع اللا دستوري واللاديمقراطي على البنية الذهنية للحزب البورقيبي والذي هو امتداد سلالي منه بل هو تسميته التمويهية الأخرى الذي صادر، وإن بصيغ مختلفة أحيانا وبكل فجاجة، التاريخ المُشترك للشعب التونسي إذ تمت مَرْكًزًة ُالكٌل حَوْلَ الذات.. ومَرْكَزَةُ الجَمًاعة اختزالا في الواحد.. الوحيد الأوحد.
ذلك أن استقلال البلاد مثلا، لم يكن بنضالات وجهادات حزب الرئيس الراحل بورقيبة، مؤسس أول جمهورية في البلاد التونسية إذ الذاكرة النضالية والجهادية قاسم مشترك بين كل الأطياف السياسية القومية واليسارية والنقابية غير أن من يسمى "المجاهد الأكبر" قد قام بتصفية خصومه ومعارضيه والذين يمكن التنصيص عليهم باستحضار اسم المغتال غدرا المناضل المجاهد الحقيقي صالح بن يوسف.
فترى أن ماضي تونس مُركًبٌ كما في حركات الاستقلال الكُبْرى في العالم والوطن العربي غير أنه وبطريقة استبدادية واستئصالية تم الاستئثار بالذاكرة النضالية في اتجاه الحزب الواحد الوحيد الأوحد وكم من مرة كتبت محتجا ضد رئيس الدولة السابق السيد الجنرال الفار حين استمعت إلى خطابه المُتلفز يُردّد حرفيا بعد مديحه البليد لما كان يطلق عليه ‘‘الحزب العتيد‘‘، يردد ‘‘نحن حزب الماضي وحزب الحاضر وحزب المستقبل‘‘ فكتبت أية بنيه فاشية فاشستية يصدر عنها مثل هذا الخطاب الذي يلغي كل شروط إمكان الديمقراطية التي يتبجح بالانتساب إليها. مما يشرّع لي منهجيا الحديث عمّا يمكن تسميته "المطلق الاستبدادي" للواحد وفكرة الواحد الوحيد الأوحد والتي كنت قد شخًصْتُها وأدنتها منذ 1985 والموثقة في كتابي ‘‘كتاب الجراحات والمدارات‘‘ والصادر في تونس ولبنان وسوريا.
بامكاننا الاعتماد على مثال إجرائي من التاريخ التونسي المُعاصر قبل "الانقلاب النوفمبري "كنتَ عندما تفتح المذياع صباحا تستمع إلى القرآن الكريم، ثم إلى المدائح والأذكار النبوية، ويليها مباشرة الاستماع إلى ما كان يُسمى وفق صياغة غريبة ودالة:"المدائح والأذكار الوطنية" فما هو مضمُون هذه المدائح المكْرورة؟ مضمونها الإشادة بخصال "المجاهد الأكبر" وفق إيقاع مُقتَبس تماما من بنية مدائح الأذكار النبوية.
ودون ذكاء نستنتج أن العقلية التي سكنت القائد تتوق إلى التًلبْس بصفات القداسة، فحتى على مستوى الإجراءات العقابية فإن من يكفر بالله ينال عقاباً أقل من الذي يُطلق لسانه في ‘‘سي الحبيب‘‘.. السيد "المجاهد الأكبر".
يعنيني من هذه الملاحظات التنصيص بشدة على على أمر جلل وخطير يعاني منه العقل السياسي العربي الإسلامي مشرقا ومغربا وطوال قرون. ما هو هذا الأمر الكارثة النازلة علي رقاب الخلق الآدامين والذين لم يرتقوا إلى مقام المواطنين؟ إنه الاحتكار والاستئثار؟ احتكار الخطاب السياسي الأحادي لكل صفات القداسة - كل الصفات - التي تخلع ميتافيزيقيا على الله تم الانحراف بها، عن وعي ودراية وقصد، لتُخلع على الأمير، على رئيس الجمهورية تماما كما كانت تطلق على وريثه الانقلابي، من ذلك مثلا نعته.. نعت السيد الجنرال الفار ‘‘بصانع التغيير‘‘.. و‘‘حامي الحمى والدين‘‘.. وباعث قناة 21.
أما الاستئار وفى كلمة: الاستحواذ بعقلية عشائرية على مُقدرات البلاد الصامتة والصائتة من الثروة.. حتي أني كتبت ساخرا ‘‘إذا تعذًر التوزيع العادل للثروة فإني أطالب بالتوزيع العادل للقمع‘‘. كلمه جعلها الطلبة شعارا ذات سنة من سنوات مُمانعاتهم الشاقة والطويلة ضد الظلم والقمع وآليات الاستبداد. وأكثر من ذلك لقد كان الزعيم بورقيبة يعيّر الشعب التونسي قائلا: أنه لم يجد في هذه البلاد، وقد يكون على حق، غير هباءات بشرية بمعنى ذرات، فجعل منهم شعبا وبالتالي فالشعب يجب أن يَدينَ له مدى الحياة بالولاء والطاعة وكل كيمياء الخنوع، وكان من الذكاء والمقدرة على التحيّل والمهارة المسرحية.. أن يقتل الميت ويمشي في جنازته بدموع المفجوعين في سويداء القلب فرقا على فراق من يحبّون وأن يُضحي بوزرائه كلما احتقنت الأوضاع في البلاد حينها يقول ما ردّد الجنرال الفار لازمته الشهيرة ‘‘غلْطُوني‘‘ أهلا.. أهلا.. ويتباكى بكاء مٌتلفزا مخاطبا الشعب وفق العبارة التالية "غلطوني" بمعنى أنه وقع تضليلي والتغرير بي ولا يتورع أن يصف أحد وزرائه بـ"وزير االزبالة" كما وقع في أحداث الخبز عام 1984 والتي – بالمناسبة - أترحم على كل شهداء ثورة الخبز والذين من بينهم "سامي الأزهر دولة" أخي وهي نفس الجملة مع سابقية اضمار التكرار.. نفس الأداء السياسي الذي سلكه الجنرال الفار حينما أعلن في خطاب متلفز بأنه لا يمكن أن يكون شمسا تُشرق على كل الجهات مستعملا نفس العبارة "لقد تمت مغالطتي".
فنستنتج من كل ما تقدم أنه قُبيل انقضاض بن علي على السلطة ووضعه بورقيبة تحت الإقامة الجبرية كان ثمة صراع على تركة "المجاهد الأكبر" الدكتاتور العجوز إذ كل الفاعلين يتربص بقصر قرطاج، ينشد التعاسة أقصد الرئاسة، وكانت الراحلة وسيلة بورقيبة زوجة الرئيس الحبيب بورقيبة الثانية أساسية إذ هي أنثى ثعاب فعالة بالسياسية تُنًصب من تُنًصب من الوزراء، وتخلع من تخلع، وتتحالف مع من تتحالف، فكانت التركة ثقيلة جدا من الارتجال السياسي وسوء التقدير لما عليه الأوضاع، أوضاع تونس التائهة بلا بوصلة، غير أن هذا الاحتقان ما قبل"النوفمبري" كان يرافقه حرية تعبير، منتزعة بشجاعة من قبل الكثير من الكتّاب والصحافيين والإعلاميين عموما.
ويمكن التنصيص على هذه الشجاعة باستحضار جريدة "الرأي" التونسية المأسوف على اختفائها والتي كان لي شرف الكتابة فيها، كتابة أعنف المقالات من ذلك "المثقف والقطيع والنظرة الجنائزية للأيدولوجيا" ونشرت ذلك في كتابي "الجراحات والمدارات". كنت قد انتقدت فيها الزعيم الحبيب بورقيبة مباشرة ووزيره الأول محمد المزالي وقد دفعت ثمنا غاليا لمجرد نشر ذلك المقال، ويا للمفارقة، لقد رافق هذا حرية التعبير.. كما عشنا تجربة الرقابة وأشكال القمع الفكري من ذلك أذكر أغنية "النقابي الفصيح" للشاعر آدم فتحي، و"عباس يفقد الصواب" لحسن بن عثمان، وكتاب "أحوال عائشة" للشاعر محمد بن صالح و‘‘نشيد الأيام الستة‘‘ لشاعر اسمه أولاد أحمد إلى غير ذلك من الأعمال الأدبية والسينمائية والمسرحية.
فترى من كل ما تقدم أن الأوضاع كانت على درجة من التعفن والاحتقان والألم والشعور بالضياع المطلق لدى التونسي في معيشه اليومي. لقد بلغت المأساة الملهاة التونسي قبيل "الانقلاب النوفمبري" إلى حد أن الرئيس المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة طالب بأربعة رؤوس، وهو مدون في الصحافة الوطنية، من بينهم زعيم الحزب الديني النهضوي راشد الغنوشي والذي صرح بعيد الانقلاب النوفمبري أنه قد نجا من المشنقة:"بفضل الله وبفضل زين العابدين بن علي".
لقد أدرك الجنرال زين العابدين بن علي وبحكم تمرسه وإطلاعه على الغرف الخلفية - والأكيد بكل أنواع المخابرات- أن الزعيم بورقيبة سيكلفه بقطع رؤوس معارضيه من الإسلاميين خاصة، ثم سيمسح سكين الجريمة من دم المعارضين على فروة رأس زين العابدين كعادته دائما وكما سبق أن فعلها بالوزير المناضل صاحب التجربة الاشتراكية للتعاضد أحمد بن صالح الذي قلّده خمس وزارات في آن واحد فما كان من زين العابدين إلا أن فطر به قبل أن يتسحر به بورقيبة كما يقول المثل المتداول، وطلع ذات صباح على الشعب التونسي ببيانه الثوري "بيان السابع من نوفمبر" الذي أعاد الاعتبار لقيام الجمهورية ولكرامة الشعب التونسي المهدورة فما كان من أغلب النخب حتى، البورقيبية، منها أن انخرطت في مشروعه الإصلاحي، ومن لا يستطيع أن يحيي صادقا ذلك البيان.
يعنيني أن ألاحظ أنه في اليوم التاسع من نوفمبر1987 أو خلال ذلك الأسبوع - إن لم تخونني الذاكرة - اتصل بي الشاعر المنتمي سياسيا إلى الحزب الحاكم والذي هو "يوسف رزوقة" ليطرح علي السؤال التالي لجريدة "الأيام"التونسية" ما رأيك في الذي حدثّ؟" والمقصود طبعا الانقلاب النوفمبري فكان جوابي مقتضبا وفق الصياغة التالية حرفيا:"ليس ثمة ما يدعو للحزن تماما كما ليس ثمة ما يدعو إلى الفرح، إني مواطن وأدعو إلى تأسيس المواطنة في بلادي على الطريقة السقراطية وأطلب الاقتصاد في الدم في بلادي إذا كان لابد من إراقة الدماء".
حين صدور الجريدة فوجئت، بل صُعقت، من المستجوبين من المثقفين تحديدا الذين ما زال حبرهم لم يجف في مديح فضائل ‘‘المجاهد الأكبر‘‘ الحبيب بورقيبة وسرعان ما استحضرت عبارة إبن خلدون:"إن السعادة والنجاح إلى جانب أهل الخضوع والتملق" وهاهم، عينهم، أنفسهم، إياهم يعيدون الكرّة كما لو أنه لا ذاكرة حبرية، ولا مرئي تلفزيوني؟؟ من كان يصف بالأمس القريب الجنرال بن علي برئيسنا "الشجاع" يبرز بوجهه ذلك عينه، إياه ليصفه بالطاغية وبالمستبد.. ومن أقصد غير السيد حسن بن عثمان الكاتب المشاغب والذي غالبا ما كنت أمازحه مطلقا عليه صفة ‘‘ديك المزابل الثقافية‘‘. هو عينه، إياه، بطلعته الزكية وحضرته البهية من حوّل مجلة ثقافية إلى منبر للدعاوى السياسية للتجمع الدستوري الديمقراطي كما يصح في واحد من شعرائهم أقل نعت واحد نعت المنافق إذ كم من مرة يكتب في مديح الرئيس مستعملا عبارة "شكرا لكم يا سيادة الرئيس على ما قدتموه من خدمات للثقافة والمثقفين"مما اضطرني شخصيا بعد أن استمعت إلى خطاب رئيس الجمهورية السابق بعد ما استمعت إلى إشادته بالمنجز التجمعي في الشأن الثقافي أصدرت بيانا ورد فيه العبارة التالية والموجهة ضد السيد الرئيس رأسا:"إن كل من يقول أن أوضاع الثقافة والمثقفين والكتاب والكتّاب على أحسن ما يرام.. ومن أي موقع يبث خطابه ومن قبل أي كان.. كائن من كان، وكائن من يكون، أقول عنه أنه يكذب بمعنى يضع الكلام في غير موضعه". وكنت قد أمليت نص البيان على الشاعر عبد الوهاب المنصورى وكنا سننشره باسمي واسمه وحين اقترح علي اسم الشاعرة السيدة جميلة الماجري عدلت عن ذلك ونشرت النص باسمي مُهدي إلى السيد الشاعر ممهورا بهذه العبارة ‘‘بكل حزن وألم".
على إثر نشر هذا البيان تشكلت فكرة رابطة الكتّاب الأحرار إذ اتصل بي الروائي محمد الجابلي والشاعر النقابي نور الدين الشمنقي والروائي والأستاذ الجامعي كمال الزغباني فشكّلنا رابطة الكتّاب الأحرار برئاسة الأستاذ الجامعي جلول عزونة كما انضم إلينا القصّاص الملتزم والمناضل الحبيب حمدوني واقترحوا عليّ رئاسة الرابطة فقلت لهم:"كيف تقبلون برئيس لا منزل له ويقيم في الغرفة 16 من نزل فيكتوريا الكبير" فأنا مدين بفكرة رابطة الكتّاب الأحرار والتي يعترف الجميع بأنها فكرتي إلى احتياطي الكذابين من الساسة والشعارير الذين كانوا يجمّلون الواقع المخروب والوضع الثقافي المعطوب.
من هنا نصل إلى الجزء الثاني من سؤالك و هو كيف كان دور المثقف التونسي؟
أنا أشتغل بالفلسفة ومن أولى اشتراطات الممارسة الفلسفية إنما هي الشجاعة ثم العمل على تحديد الكلمات للارتفاع بها من مجرد استعمالها العفوي إلى استعمالها المصطلحي سعيا لضمان الوضوح.
هذه الملاحظة المنهجية الميتودولوجية تشرّع لنا التساؤل عن معنى المثقف، فمن هو المثقف؟
بإمكاننا تقديم تعريف إجرائي للمثقف كما يقول "جون بول سارتر" :"إنه ذلك الذي يدسّ أنفه في ما لا يعنيه" لنلاحظ مدى سخرية سارتر، على طريقته، والتي يمكن ترجمة قوله وفق متداول تونسي يسمي الذي يحشر أنفه في ما لا يعنيه من شؤون الآخر بأنه "الحاج كلوف" فنقول عن فلان أنه "الحاج كلوف" بمعنى أنه لا يترك الآخرين وشأنهم كما كان سقراط - و يا للمفارقة - يفعل.
فمن هو المثقف؟.. سنعرّفه بطريقة سالبة.. ليس المثقف ذلك الذي مارس التمدرس وحصل على زاد معرفي في أي علم من العلوم سواء العلوم الدقيقة، كما الفيزياء الرياضية، أو علوم الحياة أو في العلوم الإنسانية، كما التاريخ والأنثروبولوجيا الثقافية، وإنما المثقف كل من راكم تجربة في الحياة معرفية ونضالية وسعى إلى تصريف مخزونها المادي والرمزي للمساهمة في تغيير ما عليه الشأن العام والأمر العمومي لصالح أكبر عدد ممكن من مواطنيه وبإمكاننا أن نتوسل بمثال إجرائي. كان عالم الاجتماع السويسري الشهير "جون زيغلير" قد اعتمده في كتابه الموسوم بعنوان دال وهو كتاب "أدير البنادق" إذ يأخذ مثال الطبيب ومهنة الطب ليميز بين نمطين من الأطباء:"الطبيب تقني المعرفة" وهو ذلك الذي يتوفر على زاد معرفي رمزي، رأس مال طبي، عيادي سريري وإكلينيكي، نصفه ببساطة بأنه طبيب ماهر أو شاطر مثل هذا الطبيب المشهود له بالكفاءة العلاجية حين يكتفي بتشخيص الأعراض لمرض ما من الأمراض وعلاجه بكفاءته العالية مكتفيا بإطاره المهني كأن يكون مثلا مرض الكلى ولا يتخطى هذا الإطار المهني فهذا المثقف بالمعني السيسيولجي للكلمة يظل مجرد تقني معرفي، وقد يكون من صالحه الخاص استشراء هذا المرض لأن في ذلك رواج لمهنته ومراكمة لرأس ماله المالي. في حين أن الطبيب والمثقف إنما هو ذلك الذي زيادة على رأس ماله المعرفي ومهارته الطبية في معالجة مرض الكلى يتخطى بوعي والتزام متسلحا بأدائه المهني والتزامه السياسي إذ لا يتعامل مع المرضى على أنهم حرفاء وإنما يتعامل معهم على أنهم مواطنين ليتخطى بذلك كمجرد التشخيص والعلاج ليطرح مسألة أعمق. ما هي هذه المسألة؟ إنها مسألة إزالة الأسباب الجذرية لهذه الظاهرة ظاهرة المرض والمتمثلة في تحلية المياه. فعندما يتخطى الطبيب التقني إطاره المهني عندها نتحدث عن المثقف. إن هذا التوصيف للمثقف يمكن تعميمه بوعي لنتحدث عن الصحافي تقني المعرفة وعن الروائي والشاعر والسيناريست والرسام والفنان.
ففي تونس العهد البورقيبي لم تخل الساحة الثقافية من المثقفين الذين كان متعلقهم الرئيس المطالبة بالعدل والحرية والتي كانت معلقة التونسيين الأبدية غير أنه، كما في كل المجتمعات، ثمة مثقفي بلاط، مثقفي قصر قرطاج من دافعوا عن اختيارات الزعيم بورقيبة عن اقتناع ووعي وثمة فيالق من حملة القلم الانتهازيين الذين كانوا دائما، كما شأنهم الآن، يجمّلون الواقع ويرتقون ثوب الحقيقة.
وأذكر واقعة حقيقية هي بمثابة طرفة، ثمة شاعر كبير طاعن في السن الآن في الزمن البورقيبي وكان قد حصد من فواكه السلطة النوفمبرية، سبق له أن وجه خطابا لبورقيبة قائلا له:"إن مدينة المنستير التي ينتمي إليها الزعيم بورقيبة مذكورة في الأحاديث النبوية الشريفة". هل ثمة حقارة ونذالة واحتياطي من الغباء أكثر من هذا؟. وإني أغبطه على هذه الرقاعة والصفاقة وقلة الحياء المعرفي والأخلاقي الذي يسمح له بالتكذاب. هذا الشخص عينه إياه، بلحيته تلك، وبنظارته إياها قد حصل على جوائز والزمن ليس ببعيد من الجنرال سيد قرطاج.
أما فيما يتعلق بعلاقتي بما يُسمى، وفق نعت كريه، العهد البائد، فإن لي احتجاج على استعمال مثل هذا النعت والمتمثل في غفلتنا الخطيرة في استعمال الكلمات كيفما اتفق. العهد النوفمبري لم يُبد، لأن المسألة تتعلق بمعضلة السلطة والسلطة السياسية تحديدا. كان الفيلسوف الفرنسي الراحل "ميشيل فوكو" صاحب كتاب "المراقبة والمعاقبة" قد نبهنا بحذقه الاستثنائي إلى ضرورة التخلص من التصور الماهوي للسلطة إلى ما يمكن تسميته التصور العلائقي والشائك للسلطة. المقصود بالتصور الماهوي للسلطة هو ذلك التمثّل الذهني الذي ينظر إلى السلطة على أنها نواة مُنغلقة على ذاتها ومُكتفية بذاتها ويكفي اجتثاثها من جذورها وبكل مكوناتها حتى تتم النقلة النوعية من نمط وجود سياسي واجتماعي وحضاري إلى نمط آخر مغاير تماما كأن نتصور مثلا أن السلطة السياسية في تونس تكمن في قصر قرطاج وفي الرأس التي تسكنه ويكفي أن نزيح الرأس القرطاجنية ليتغير ما عليه الحال بشكل عجائبي وهذا خطأ نابع من غفلة معرفية وذهول منهجي في التفكير ذلك أن السلطة وإن كانت تنبع من قصر قرطاج فهي لا تنتهي عنده بل هي مبثوثة بشكل سرطاني في كل الاتجاهات ابتداء من حراس المؤسسات وكتّاب التقارير ولجان الأحياء ورؤساء التحرير وبوليس النجدة وحاضرة حتى في المواخير ومن كنت قد أطلقت عليهم "ريحانات الحانات".
لا بد في رأيي من إعادة النظر نقديا وجذريا في مقام رئاسة المؤسسة ذاتها، وفي مقام الملوكية لدى الملوك، والإمارة لدى الأمراء من ذلك مثلا أن معنى الرئاسة والتروّس على رأس الجمهورية يفترض، ضمن ما يفترض، استقلال القرار الوطني إن على مستوى الأداء الثقافي أو النقابي أو الاقتصادي أو الديموغرافي. إذا استحضرنا هذه العناصر فقط نتبيّن الغياب المطلق لمعنى السيادة الوطنية ذلك أن قراراتنا وإجراءاتنا وأشكال أداءنا في جميع المجالات إنما هي مملاة على الحكومات إملاءً من قبل ما يسمى بـ"رأس المال الجوال" فما يسمى بالقرارات الوطنية إنما هي قرارات استعمارية بالأساس. من ذلك مثلا السيارات الشعبية لم تكن في البدء مطلبا شعبيا وإنما فُرض على تونس أن تفتح أبوابها بلا قيد ولا شرط لشركات السيارات العالمية التي تتنافس بكل ما يقتضي منطق السوق من شراسة على السوق التونسية فما كان من هذا الإجراء إلا أن أغرق اغلب المواطنين في التداين لدى البنوك التي لا ترحم، إذ لا معنى للرحمة وفقا للعقل السوقي. أليست كل الديانات إنما هي ثورات ضد الطغيان المالي القرشي القريشي القاروني والهاماني؟؟ أليست العولمة ميتافيزيقا مالية.. عبادة الأخضر الدولاري؟ ألا يوجد كتاب يحمل عنوانا دالا ‘‘الله أمريكاني‘‘. يا للتاريخ والرقاعة التونسي كما العربي في عواطف التحولات الخضارية بلا بوصلة.
وهكذا تحول تدريجيا ودون وعي منه الإنسان التونسي إلى مجرد رقم استهلاكي في المعادلة العولمية تماما كما الأمر بالنسبة للاختيار التربوي وطرق التدريس البيداغوجية سواء في الفلسفة أو في التاريخ أو ما يسمى بالتربية المدنية إنما هي مراقبة بكل حضر وحزم من قبل القوى الإمبريالية كما الشأن بالنسبة للاختيارات الديمغرافية ونسب الولادات، كلها ليست اختيارات وطنية فترى أن الشعب التونسي في مهب رياح حضارية وسياسية وثقافية وديمغرافية ولغوية ناهيك عن الإنهاك الاقتصادي تترجمه عبارة دالة يرددها الجميع بصيغ مختلفة:"العين بصيرة واليد قصيرة".
يعنيني أن ألاحظ ما كنت قد لاحظته في مقال لجريدة "القدس العربي" أن السلطة السياسية في تونس لم تعمل فقط على استنزاف وتبذير حياة التونسيين الأحياء وإنما ذهبت إلى أبعد وأشنع وأفظع فكيف ذلك؟؟. فقد كان من المفروض وفقا للنمو الديموغرافي للشعب التونسي أن يكون تعداد السكان مع العام 2000 بين 20 و21 مليون نسمة غير أن تفطن ما يسمى حكماء العمران البشري إلى ضرورة تحديد النسل قد أوغل في تحديد النسل فعلا بمساعدة المنتظمات الأممية خوفا من ما يسمى الانفجار الديمغرافي أو"القنبلة" الديمغرافية، أنا لست ضد هذا الاحتياط الوقائي المفيد لصحة الأمهات والمحصّن للبلاد ضد الانفجارات والأزمات والقلاقل التي لا تتحملها جغرافية تونس الصغيرة غير أن السؤال الحاسم:"هل حققت هذه السياسة الموسومة بالحكيمة المحلوم به تونسيا؟" إذ كان من المفروض أن يكون الشعب التونسي قد حقق شروط إمكان حياة مريحة أو ما كان يسميه الزعيم بورقيبة "فرحة الحياة" أو ما أطلق عليه الخطاب النوفمبري"جودة الحياة".
لو قمنا برصد لما يمكن تسميته جينيالوجيا الثروة لتبيننا الأسباب الحقيقية التي قادت إلى هذه الثورة فالحكومات المتعاقبة مارست كل أشكال النهب للأموال العمومية حتى أن أحد اللصوص الذي كان على رأس "الشركة التونسية للتوزيع" وهي مؤسسة ثقافية قد نهب ما يمكن تسميته مجازا "حق التأليف الرباني" إذ اجترح لنفسه خمسة عشر بالمائة من طباعة "القرآن الكريم" كما لو كان من تأليفه. وأكثر من ذلك حين تمت تصفية وتفكيك هذه الشركة استحال أغلب موظفيها إلى ناشرين والذين لا يزيد مقامهم عن اللصوص الحقيقيين. فترى من كل ما تقدم أن العهد البائد لابد له من مبيد حقيقي من أهم مهام الثورة، ثورة الفتيان الأحرار، لتوفيره والمتمثل في محاسبة قانونية وحقوقية لاستعادة كل الثروات الوطنية المنهوبة ليس فقط منذ العهد النوفمبري وإنما منذ لحظة الاستقلال وهو أمر ممكن وإن كان يتطلب إرادة سيزيفية.
يقول إبن حزم آخر أيام حياته " لابد أن نؤرخ للرذيلة" ذلك لأن للفضيلة المكذوبة كتابها على مر العصور ليس صدفة أن يرد في المتون القديمة :"احثوا التراب في وجوه المداحين "بهذا القول أصل منهجيا إلى علاقتي بثورة الفتيان الأحرار.
من أين سأبدأ لقد كنت من الأوائل الذين مروا أمام القضاء التونسي وكان ذلك عام 1989 والتهمة مضحكة "النيل من الأخلاق الحميدة" وقد كنت قد كتبت مقالا عنوانه:"الإفصاح في تسمية النكاح" أو "المعمول به والمسكوت عنه" وقد نشر في مجلة "المغرب العربي" وقد كانت المجلة على ملك المناضل الحقيقي والرجل الخلوق المنفي في فرنسا عمر صحابو ولم أمر وحدي أمام القضاء إذ كنا ثلاثة مدير المجلة والصحافي القدير زياد كريشان. ويعنيني أن أنوّه بعد هذه السنوات العجاف بموقف الأكثر من ثلاثين محامي تقريبا الذين تطوعوا للدفاع عنّا رغم أن رؤوس المثقفين قد برروا هذه المحاكمة بصيغ مختلفة مثل المفكر هشام جعيط الذي بررها بانقطاع الشعب عن تراثه كما ذهبت المناضلة أم زياد إلى القول حرفيا:"إن المثقف التونسي يطالب بحقه في قول القباحة" واستغربت مثل هذا الموقف ممن أعتبرهم حراس القيم النقدية في الثقافة التونسية وقد ساهمت جريدة "لوموند" الفرنسية في إخلاء سبيلنا وإسقاط الدعوة القضائية.
وسأقول لك حقيقة سبب كتابة المقال.. لقد تناهى إلى مسمعي في جلسة مع من أثق به من أن السيد الجنرال قد قال:"لقد فعلتها في بورقيبة وأن كل من يعارضني سأستفعل فيه "فكتبت أنا ذلك المقال الذي قارنت خلاله السياسة بفعل الفاحشة وهو ما أغضب "السيد الرئيس"!!
أما ثاني الوقائع فيتمثل في أنه بعيد إصدار كتابي "الجراحات والمدارات" الذي بقي حوالي ستة أشهر دون تأشيرة فقد تم الاعتداء عليّ جسديا ليلا في شارع إبن خلدون وأمام المارة والتهمة هي عينها إياها:"أكتب زيد أكتب" وأحمل آثارها على مستوى رأسي.
وفي عام 2004 كنت قد أدليت بحوار مطوّل وبمناسبة الانتخابات كان قد أجراه معي الصحفي الشاب فوزي عزالدين وقد استعار لنفسه اسما تحصينا له من بطشهم، كنت قد كتبت في هذا الحوار بكل أدب من السيد الرئيس الخروج من تاريخ تونس من الباب الكبير واعترفت له في هذا الحوار بأنه أحدث ثورة في المغلق السياسي العربي الإسلامي إذ لم تسل ولو قطرة دم واحدة عند الحدث النوفمبري واستحضرت عبارة قالها الزعيم بورقيبة حين وفاة الزعيم جمال عبد الناصر إذ قال بورقيبة :"لقد خسر عبد الناصر كل شيء وربح موته "مشيرا إلى ضخامة الفاجعة والحزن الذي لف الوطن العربي على وفاة الزعيم عبد الناصر إذ كان على بورقيبة عند موته أن يحمل على الأعناق من قصر قرطاج إلى مثواه الأخير بمدينة المنستير.
كما كنت قد نبهته إلى:"أن أخشى ما أخشاه أن الدماء التي تم حقنها أثناء التغيير النوفمبري تسيل في قادم الأيام" ولا أعلم كيف حصلت تلك المخابرات على الحوار الذي نشر في المشرق وتم الاعتداء عليّ مرتين مرة بساحة برشلونة وبالتحديد في طريق المحطة وكسروا رجلي اليمنى دون أن يطلبوا مني أي شيء، ومرة كسروا حاسوبي في باب جديد أمام المارة اعتقادا منهم أنني أملك نسخة إلكترونية لكتاب"حاكمة قرطاج" الممنوع آنذاك.
أما أخر أشكال الإذلال والإيذاء تتمثل في حرق بيتي الواقع بباب الفلة في تونس العاصمة عند الساعة الثالثة إلا الربع صباحا وإني لا أتهم وزارة الداخلية بقدر ما أتهم العصابات العائلية إذ قال حارس شعبة عزوز الرباعي:"خسارة أنه لم يمت" فما كان من الجيران إلا أن زجروه وعنّفوه فإني آسف على حرق كتبي وبإتلاف ثلاثة فصول من روايتي "أحلام اليونان" وإتلاف كامل لديوان:"حين كنت حيا مررت قرب حياة".
ومن هنا نصل إلى السؤال: ماذا بدلت ثورة الفتيان الأحرار في حياتي؟
إنني في حالة هدوء وعشق إذ قبيل الثورة بما لا يزيد عن الشهر وقعت في عشق طبيبة ملتزمة مثقفة بالمعنى الذي حددناه آنفا وإن كان هذا الأمر شأنا شخصيا حميميا ذاتيا. غير أنه بالإمكان طرح مسألة الحب زمن الحرب، وهي على غاية من الأهمية والطرافة، إذ أنه لا يجب الخلط بين الوسائل والغايات. فلماذا الثورات أصلا؟ إذا لم يكن محركها الرئيس إنما هو الحب وفقا لأسمى معانيه، حب العدل والحرية والحق وإعادة الإعتبار للذات الإنسانية الفردية والجماعية باعتبارها قيمة القيم. خطاب الحب زمن الثورة والحرب يستدعي استنطاقا نقديا للمعجم المشترك بينها، بين الحب والثورة والحرب، وحتى المرض إذا ما شبهنا المجتمع بالجسد. فنقول سقط الشهيد في الحرب، كما نقول وقع الجندي في الأسر، ووقع العاشق في شراك الحب، وأطرف ما في الأمر أن المعجم العربي يعتبر الحب حالة من حالات الموت وفقا للدلالة المادية والرمزية.
لقد غيرت وبشكل سريع ثورة الفتيان الأحرار مني حالة تشبه حالة اليأس الذي كنت أعيش، والتي كان شاعر "الطرماح" قد وصفها معتبرا أنه لم ير كاليأس للمصائب شافيا فكتبت في جريدة "القدس العربي" نصا يحمل عنوان" وشحلة الوطن على الشوارع" كنت رددت هذه اللازمة "يائسون منهم تماما" والخطاب موجه للملوك والسلاطين والأمراء ولمن أطلقت عليهم بطريقة ساخرة "رؤوس باذنجان على تيجان". وكان النص أصلا بمثابة الدفاع من موقعي عن المقاومة في لبنان.
إذا كانت الثورة تعني، ضمن ما تعنيه، اجتثاث البنى القديمة واستبدالها ببنى جديدة من أجل تقديم بديل تأسيسي جديد على السائد المتقادم فإن هذه الثورة - وإن لم تكتمل - إذ انطلقت بشكل عفوي واتخذت لها طابع التمرد الجهوي ثأرا للكرامة أساسا فإنها أدركتني وأنا في سن الكهولة. لقد بكيت كثيرا ليلة هروب السيد الجنرال الفار لأمر غامض لأنه ربما فر ببعض من تونسيتي؟ كيف يحكمنا جبان طوال هذه السنين الطواااال؟ كما أني أعتبر أن السيد الجنرال لا يتحمل وحده ما انتهى إليه هذا المسار وأنه لا بد من إعادة النظر نقديا - وبكل شجاعة - في جميع الأسباب والفاعلين المتعددين الذين كانوا سببا حقيقيا لتردي الأوضاع على مستوى الوطن الجريح بمن خانوا عقد التراب.. فلحق البلاد ما لحق من الخراب العاطفي.
إذ لاحظت ما عليه الطلبة والشباب الذين أدرس من تعب على مستوى البنى النفسية حتى أني كنت أمازحهم وأصفهم بأنهم سرعان ما وصلوا إلى سن اليأس العاطفي وبلغوا الشيخوخة العشقية قبل الأوان. فحين تحدثهم عن الحب أو الصداقة أو الإخلاص أو الوطن فكأنما أنت كائن آت من العصور الحجرية أقصد أننا نعيش وبطريقة معلنة ما يمكن تسميته موت الوطن لدى جيل ما بعد الاستقلال إذ انساق هذا الجيل نسقيا للاستهلاك ولا شيء غير الاستهلاك وذلك لعوامل عدة. إنه استهلك فكرة الوطن وفكرة الإخلاص وفكرة الكرامة.. والأحداث كذّبت هذه الملاحظات إذ ما يظهر عليه هذا الجيل مما يسمى ميوعة وعدم الاكتراث بالسياسة أنه لم يكن جيلا ضائعا بالمعنى السلبي للضياع وهو ما يحملنا جيدا على ضرورة إعادة النظر في أحكامنا المسبقة من ذلك إعادة النظر في الشأن السياسي. ألا تعني السياسة ضمن ما تعنيه تدبير الشأن العام والأمر العمومي في إطار الممكن الجغرافي لرسم ما يمكن تسميته المحلوم به جماعيا؟.
لقد غيرت هذه الثورة في بنيتي النفسية، إذ أدركت ودون تواضع مزيف أني لم أكن على خطأ، أدعو دائما إلى ضرورة التمرد على جميع المؤسسات المتكلسة تلك التي تدير الحاضر بعقل الماضي وترفع من شأن الوطن على مستوى الخطاب وتفَتت فكرة الوطن على مستوى الممارسة العملية لدى الشباب. إن الخطاب الرسمي للتجمع الدستوري الديمقراطي الذي لم يكن أمينا على غنائم الاستقلال، كان دائما يردد مخاطبا الشباب:"أيها الشباب أنتم الحل ولستم المشكلة" وفعلا لقد أدرك الشباب إنما هم الحل وإن الشيوخ إنما هم المشكلة فكانت الثورة إنما هي الرد العملي والفعلي والممارساتي على الخطاب الشيخ. لقد جعلت هذه الثورة الأمل ممكنا والحب ممكنا والفرح ممكنا بعد سنين طوال من الجفاف العاطفي والتصحر الوجداني. فيحدث للعنقاء أن بنارها تحترق ومن رمادها تبعث.
ويعنيني أخيرا أن أدون، لوجه التاريخ، أنه كتب في"الصحافة التونسية" وبالبنط العريض بعد الانقلاب النوفمبري1987 مستحضرين الكتّاب النقديين للفترة البورقيبية، كتبت الصحافة" هؤلاء قاوموا الحكومة القديمة إلى أن سقطت" وكان اسمي من بين أبرزهم وبعد ثلاثة وعشرين سنة، وكان الذي كان، ها أني ساهمت في إسقاط رأس الحكومة ما بعد النوفمبري وإني على استعداد تام أن أعين الحكومة التونسية الجديدة إذا ما انحرفت عن مبادئ الثورة والذي متعلقها الأساس العدل والحرية والتوزيع العادل لكل من الثروة والقمع إذا ما استلزم الأمر أن أعينها على السقوط وذلك باستئناف سقرطة الفلسفة بمعنى جعلها مفتوحة على الساحة العامة وليست أسيرة جدران الجامعات كما هو الشأن الأمس. إذ من اشتراطات الفلسفة الأساسية التدرب على الحرية والشجاعة لقول الحقيقة من أجل الظفر بسعادة الممكنة مع الآخرين وليس على حسابهم. إذ المحلوم به ثوريا استئناف مشاريع التنوير التي حلم بها رواد النهضة العربية لذلك وجب على كل حر وحرة ومن أي موقع كان العمل على حراسة وردة ثورة فتيان الحرية في هذا البلد أو ذاك. لقد أنهى"أمبيرتو إيكو" روايته الشهيرة "اسم الوردة" بعبارة شعرية عالية":لقد كانت الوردة اسما ونحن لا نملك غير الأسماء "بعد استئذان المفكر الإيطالي أقول لك إن الثورة وردة لها اسم: "حرية فتيان الحرية وفتياتها".
أن تكون تونسيا هو أن تحرس هذه الوردة من أعدائها. إن الفلسفة إنما هي الزهرة الراقية لعصرها، كما يقول هيغل وزهرة تونس المعاصرة ثورة فتياتها وفتيانها. سلام وأمام ويليه.. أمام..
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire